كان الجنرال (هيرمان غورينغ) الرجل الثاني في النظام النازي مولعاً بجمع القطع واللوحات الفنية. كانت لوحة (المسيح والخاطئة) من أهم ما كان يتباهى باقتنائه بصفتها تحفة فنية تعود للرسام فيرمير، أحد أعظم الفنانين الهولنديين في القرن السابع عشر. بعد أن أطاح الحلفاء به شرعوا في التحقق من التحف التي كانت بحوزته وتعقب طرق وصولها إليه، خصوصا أن كثيرا منها كان يعتبر بمثابة ثروة قومية للبلدان التي نهبها النازيون. عرف المحققون أن لوحة فيرمير الثمينة قد سرّبها إلى النازيين وباعها لهم هولندي نشط في تجارة القطع الفنية النادرة يدعى (هان ميغرين). قبض على ميغرين ووجهت له تهمة الخيانة العظمى بصفته متعاونا مع العدوّ ومتآمرا ضد مكتسبات وطنه القومية. عندما أيقن ميغرين بشؤم مصيره قرر أن يكشف لهيئة الادعاء أحد أخطر أسراره الخاصة.
"أنا لست متآمرا مع العدوّ. أنا مجرد مزور، لم أبع لوحة لفيرمير. كل ما في الأمر أني زورت تلك اللوحة واحتلت على ذلك النازي اللعين"، هذا ما حاول ميغرين إقناعهم به، وطلب أن يحضروا له بعض الأدوات ليصنع لوحة طبق الأصل للوحة التي في حوزتهم. أحضروا له الأدوات ورسم اللوحة ذاتها وبنفس جودة التزوير التي لم تكن لتكشف إطلاقا، بحسب تقنيات حقبته. لقد كان صادقا في دفاعه، وهذا ما صدم الكثيرين بدءا من القائمين على المتحف الذين اضطروا لاستبعاد تحفة فيرمير المزعومة، مرورا بالنقاد الفنيين الذين تلقوا صفعة أضرت بنرجسيتهم كثيرا بعد أن كشف مدى زيف ما كنوا يظنونه في أنفسهم من حذق ودراية، وانتهاء بالمخدوع الأكبر هيرمان غورينغ الذي بلغه داخل سجنه ما ينبئه بأن لوحته المحببة إليه لم تكن أكثر من كذبة. يصف كاتب سيرته طريقة تلقيه الخبر بقوله "رغم تاريخه الحافل بجرائم الحرب، إلا أنه بدا وكأنه يدرك للمرة الأولى وجود الشر في هذا العالم". من الجدير بالذكر أن لوحة (المسيح والخاطئة) لم تكن الوحيدة التي فقدت قيمتها بسبب اعتراف ميغرين، بل هناك عدة لوحات أخرى خسرت ما كانت تتبوأه من مكانة للسبب ذاته. ذلك لأنه لم يعترف بتزوير تلك اللوحات فحسب، بل تبجح به ساخرا من كل نقاد عصره. تمت تبرئة ميغرين من تهمة الخيانة العظمى، لكنه حوكم في المقابل بتهمة الاحتيال التي لا تتجاوز عقوبتها القصوى أكثر من خمس سنوات.
"إذا كان المُزوَّر له جودة العمل الأصلي نفسها، لماذا يكون أثر معرفتكم بزيفه سيئا إلى هذه الدرجة؟". كان هذا أحد أشهر أسئلة ميغرين التي وجهها للنقاد المتابعين لمحاكمته، ويبدو لي أنه من أهم الأسئلة الفلسفية المتعلقة بطبيعتنا البشرية كذلك. لماذا نحن نأسف بشكل مربك على كل متعة قد عشناها بمجرد أن ندرك أن كل أو بعض دوافع اقتناعنا بها ليست حقيقية. إذا كانت السعادة قائمة على اللذة فقط، فما الذي يخلق لدينا هذا الحرص على صدق ما نعتقده؟ لا أحد يحب الألم، لكن معظم الناس يشعرون به عند انكشاف كذبة ما في حياتهم، لا بسبب إدراكهم لذلك، بل بسبب تأخر هذا الإدراك. يبدو إذن أن الإنسان لا ينحصر معنى السعادة بالنسبة إليه في مجرد اكتساب اللذة واستبعاد الألم كما يزعم البعض، بل يشترط فيها موافقتها لما يعتقده من الحقيقة. الإنسان في جوهره كائن باحث عن الحقيقة قبل كونه باحثا عن اللذة وإن لم يدرك ذلك ظاهريا. من الممكن أن يجادل أحدهم بقوله إن طلب الإنسان الدائب للحقيقة لا يدل على وجودها، بل إن استمراره في تبديل ما يقتنع به من حقائق بين حين وآخر يشير إلى انعدام كل حقيقة مطلقة. ولكن سيفوت مثل هذا المجادل في الغالب، أن العقل الحر لا يبدل حقائقه بشكل عبثي، بل يبدلها عند تغير المعطيات الدالة عليها. فإن لم تتغير دالة حسية أو منطقية لا يحدث تبديل في الحكم على الحقيقة، بل حتى من ينفي وجود الحقيقة المطلقة يتورط عمليا في إثباتها عند إصراره على منطقه. فإصراره على صحة رأيه يشي بتلمس روحه المغمضة لثدي الحقيقة كما يتلمس الرضيع ثدي أمّه قبل أن تعرف شفاهه طعم اللبن. إذ ربما كان إلحاح كليهما في طلب ما هو غائب عن الإدراك مشيرا إلى وجوده رغم تخبط أصابع العقل والتجربة.
فلنفكر بعد أن ننظر إلى الأمر بصيغة أكثر تطرفا من حالة لوحة فنية أو فلنقل أكثر تكثيفا.
ماذا لو عرض على أحدنا أن يعيش في كبسولة تجمد جسده، وتبقي دماغه في حالة من الوعي البهيج الزائف إلى الأبد؟ هل تراه يوافق أم أنه سيرفض ذلك ويفضل حياة حقيقية، وإن كانت مأساوية وقصيرة؟ لقد واجه (ديفيد) الشخصية المحورية في فيلم (سماء الفانيلا) هذين الخيارين، فتقبل أخيرا الخيار الثاني، مخلصا لطبيعته الإنسانية كما يبدو أو كما أراد كاتب الفيلم أن يشي بذلك.
ماذا عنك أنت؟ أيهما أولا؟ اللذة أم الحقيقة؟