في بداية كل فصل دراسي أو قبيل انطلاق أي اختبار أتحدث مع الطلاب عن الدلالة الأخلاقية للغش وتحديدا على أثرها على علاقة الطالب بالمعلم. الفكرة بسيطة وهي أن الغش يفسد الركيزة الأساسية لأي علاقة أخلاقية، وهي ركيزة الثقة. حين يغش الطالب في الاختبار فإنه قد قام بخداع معلمه، وهزّ بذلك أساس تلك العلاقة. بالنسبة للمعلم يكون السؤال كالتالي: ما الذي يضمن لي صدق باقي التعاملات مع الطالب إذا كان يقتنص أي فرصة للغش في الاختبار؟

لو تأملنا لوجدنا الثقة أساس كل العلاقات التي يقوم عليها التجمع البشري. الحقيقة الواضحة هي أن الإنسان لا يستطيع العيش وحيدا، وأنه مضطر للتعاون مع الآخرين. هذا التعاون لا يتحقق بدون ثقة. نلاحظ هنا أن جزءا أساسيا من سلوكنا اليومي قائم على الثقة. في الصباح نقف جميعا عند إشارة المرور الحمراء، ونتحرك حين تتحول للون الأخضر بناء على ثقتنا بأن الآخرين في الطرف الثاني من الإشارة سيحترمون التنظيم ذاته. نتجه لاحقا للمقهى للحصول على قهوتنا بناء على الثقة أن من يصنع القهوة سيلتزم بمعايير النظافة والأمانة. نضع أطفالنا في المدرسة مفترضين الحد الأدنى من الثقة بأن من في المدرسة سيحسن التصرف مع فلذات أكبادنا. هذا فقط الجزء الصباحي من يومنا أو الساعتين الأوليين منه. لا نستطيع أن نشرف على كل ما سلف بأنفسنا، لا بد من افتراض الثقة في الآخرين لإنجاز تلك المهام الأساسية في حياتنا. لو تعطلت تلك الثقة لانهارت كل العلاقات المبنية عليها وتوقفت تلك الخدمات الأساسية. مع توقف تلك الخدمات سيتوقف المجتمع عن الوجود لافتقاده الروابط الأساسية لوجوده. لهذا السبب نفهم لماذا اعتبرت كل الثقافات الكذب خطيئة أساسية. كذلك نفهم لماذا اعتبر إيمانويل كانت الكذب مشكلة أخلاقية لا يمكن تبريرها أو قبولها إذا أردنا أن نكون أخلاقيين.

التعليم ينطبق عليه ذات المبدأ. الطالب الذي يغش في الاختبار أو في أي مهمة دراسية يفسد أساس العلاقة التي تجمعه مع باقي أطراف العملية التربوية. ولكن ماذا عن غش المعلم نفسه؟ هذا الغش يمكن أن يحصل بعدة طرق منها: أولا أن يكذب المعلم على طلابه، وثانيا أن يتواطأ معهم على الغش. الشكل الأول يفسد الثقة بين المعلم والطالب، وربما يفسد معها القيمة المثالية للمعلم في نظر الطالب. الشكل الثاني، وهو أن يتواطأ المعلم مع طلابه على الغش، يحتاج إلى تحليل مفصل. الحالة الأولى أن يتواطأ المعلم مع الطلاب على الغش لغرض مادي. أي حين يبيع عليهم الأسئلة مثلا. هذه الحالة تبدو واضحة كجريمة خيانة لا أظن حتى الطالب المستفيد سيحتفظ فيها باحترام لهذا المعلم كمعلم. الحالة الثانية وهي حين يساعد المعلم الطالب على الغش من أجل المساعدة، رحمة أو تعاطفا معه. هنا يبدو هدف هذا المعلم سليما من الانتفاع الشخصي، لكنه مشكل أخلاقيا على مستوى العملية التعليمية ذاتها. عملية الغش هذه تجعل العمل اليومي طول السنة بدون معنى. نلاحظ أن مع كل حصة دراسة فإن التعاقد بين المعلم والطالب يتجدد كالتالي: من اجتهد منكم وقام بالأعمال المطلوبة سينجح ويحصل على الدرجات. هذا التعاقد المتجدد يوميا هو أساس الطاقة اليومية التي يبذلها الطالب للقيام بأعماله. نلاحظ هنا أن جوهر غالب العمل البشري قائم على فكرة قريبة من المثل الشهير: من زرع حصد. لو استيقظ الجميع يوما ما وهم غير مؤمنين بهذه العلاقة بين الفعل والنتيجة لتعطلت الحياة. المعلم المتواطئ مع الغش يفسد هذا المبدأ الأساسي، مبدأ أساس العمل في المجتمع، ولذا فعمله لا يمكن تبريره أخلاقيا حتى وإن تحرك بدوافع غيرية.

الحالة الثانية تثير إشكالية أخرى وهي أنها تتعارض مع مبدأ المساواة والعدل بين الطلاب. المعلم المتواطئ مع الطالب على الغش يتسبب في جعل التنافس بين الطلاب غير عادل. نلاحظ هنا أن الواقع يقول إن كل طالب ينافس الآخرين على مقعد في الجامعة أو فرصة وظيفية. الأمل أن يكون السباق بينهم عادلا لكي يكون الاعتماد على نتائجهم (الدرجات مثلا) مبررا. التواطؤ على الغش يفسد شروط كل هذا التنافس.

التحليل أعلاه كان هدفه توضيح الدلالة الأخلاقية للغش في العلاقات التربوية. انتشار الغش في المؤسسات التعليمية يهدد الأساس الأخلاقي لكل العمل في تلك المؤسسات. واحدة من آثاره المهمة أنه يدفع العاملين في تلك المؤسسات للانتقال من العمل بإيمان بقيمة التعليم والتربية إلى العمل التقني التنفيذي وسط حسبة شخصية صغيرة. الحسبة الشخصية الصغيرة يمكن التعبير عنها بالتالي: لا أمل في تعليم حقيقي في مؤسسة ينخرها الغش، ولذا ليس أمامي إلا العمل للحفاظ على الدخل القادم من هذه الوظيفة واستغلال كل فرصة للانتفاع المادي من هذه المؤسسة. هذا المنطق يحول المعلم أو الأستاذ الجامعي إلى تاجر شنطة يبحث عن الربح واغتنام الفرص. هذا يمكن أن يفسر خفوت الحديث عن قضايا المعرفة والتربية بين المعلمين وأساتذة الجامعات، وبروز الحديث عن الفرص المادية التي يمكن استغلالها في تلك المؤسسات.