فخامة الرئيس، لعلكم اطلعتم على تاريخ أميركا المناهض للتجارة الحرة وتأثيره السلبي على دولتكم العظمى. فعلى عكس الاعتقاد السائد لدى معظم شعوب الأرض، كانت أميركا وما زالت من أشد الدول المعارضة لحرية التجارة، لذا لم يكن مستغرباً عليكم تدشين أسبوعكم الأول بإلغاء اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ، وكيل المديح لبريطانيا على خروجها من الاتحاد الأوروبي، وتهديد المكسيك وكندا بالانسحاب من اتفاقية "نافتا"، والتلويح بفرض الرسوم الجمركية على واردات أميركا من الصين والبرازيل.

ولا شك تعلمون يا فخامة الرئيس أن التاريخ سجل مناهضة أميركا للتجارة الحرة منذ القرن الثامن عشر لحماية أسواقكم، حيث كانت تمارس سياسة الربح التجاري لتكديس المعادن الثمينة الناتجة عن فائض الصادرات على الواردات. وهذا أدى بدوره إلى انتشار السياسات الحمائية الضارة في جميع دول العالم خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. وكان هدف أميركا آنذاك حماية الصناعة الوطنية الناشئة من المنافسة، وتسخير السياسة الجمركية لتقييد التجارة العالمية من أجل رفع مستوى التوظيف وعلاج العجز في ميزان المدفوعات.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في أواخر عام 1947، فوجئ الحلفاء المنتصرون، والراغبون في توحيد صفوفهم وفتح أسواقهم والنهوض باقتصادهم، برفض الكونجرس الأميركي المصادقة على ميثاق مؤتمر "هافانا" الهادف لتحرير التبادل التجاري بين دول العالم، الذي دعا إليه المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة. وكانت حجتكم آنذاك لا تختلف عن حججكم اليوم، وهي عدم تماشي هذا الميثاق مع مصالحكم لخشيتكم من استباحة الدول الأخرى لأسواقكم الواعدة، واستنزاف خيراتكم والتسلط على ثرواتكم، حيث كانت أميركا تمتلك في ذلك الوقت 80% من مخزون الذهب العالمي و90% من الاستثمارات الدولية، وتنعم بحوالي 50% من الإنتاج العالمي للفحم و60% من الكهرباء و75% من النفط.

لذا تشجيعاً للحكومة الأميركية على تعديل مواقفها المناهضة للتجارة الحرة، دعت بعض الدول الأوروبية الجانب الأميركي إلى عقد مؤتمر تجاري عالمي بالقرب من مدينة "نيويورك" لإقناع الكونجرس بأن حرية التجارة ليست بالخطورة التي يتصورها، بل هي جزء لا يتجزأ من الرأسمالية التي تنادي بها السياسة الأميركية. في هذا المؤتمر اتخذت الوفود الأوروبية خطوات بطيئة وتدريجية لتعريف الجانب الأميركي بمزايا التجارة الحرة.

وبعد أسابيع من المداولات المكثفة تم الحصول على الموافقة الأميركية المترددة، وخوفاً من تراجعها اقترحت الوفود الأوروبية على الجانب الأميركي التوقيع على اتفاقية ملزمة تفي بالغرض المنشود من هذه الخطوات، وتساهم في تحقيق موافقة الكونجرس على ميثاق "هافانا".

وهكذا نجحت جهود الوفود الأوروبية في التوصل إلى اتفاقية مبدئية مع الجانب الأميركي، التي احتوت على 38 مادة وشكلت الفصل الرابع وجزأً من الفصل الثالث لميثاق "هافانا"، فسارع الكونجرس الأميركي بالموافقة عليها لكونها اتفاقية هزيلة "خالية من الأنياب" كما وصفها الرئيس الأميركي السابق في ذلك الوقت.

ونتيجة لذلك احتفل العالم في 24 مارس 1948 بمدينة "جنيف" بولادة هذه الاتفاقية، التي أطلقتم عليها لاحقاً اتفاقية "الجات"، لتبدأ مسيرة العولمة التجارية بفتح الأسواق وتحرير التجارة وتخفيض الرسوم الجمركية بين الدول الأعضاء فيها، وترغيب الدول الأخرى في الانضمام إليها بهدف زيادة الثقة بهذا النظام التجاري العالمي الجديد. وهذا النجاح أدى إلى توقف حروبكم الدموية من خلال تحويلها إلى حروب تجارية تحتكمون بشأنها في منظمة التجارة العالمية.

إلا أنكم اليوم يا فخامة الرئيس تعيدون تاريخ رفض بلادكم للتجارة الحرة وتؤكدون على موقف دولتكم المناهض لفتح الأسواق، دون خشية من العواقب الناتجة عنه، خاصة بعد أن أصدرتم قراركم بإلغاء اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ، التي انتقدتموها خلال حملتكم الانتخابية ووصفتموها بأنها "كارثة محتملة لأميركا"، لأنها كما أشرتم تضر بالصناعة الأميركية، علماً بأنها كانت تنادي برأب الصدع في التجارة الحرة بين الدول الأعضاء في الاتفاقية المكونة من 12 دولة وتشكل 40% من الاقتصاد العالمي، إضافة إلى أنها كانت الوسيلة الآمنة لدعم الروابط السياسية والاقتصادية بين دولكم وتعزيز النمو ورفع مستوى المعايير البيئية وحماية حقوق الملكية الفكرية وتوفير الأدوات القانونية اللازمة لخفض الرسوم الجمركية بين إقليمكم.

وحيث إننا نتوقع في الأيام القادمة صدور قراركم القاضي بإعادة التفاوض بشأن اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية "نافتا"، وهي اتفاقية تشمل الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، لاعتقادكم بأنها تحرم العمال الأميركيين من وظائفهم، فإن التجارة الحرة تناشدكم بالابتعاد عن هذه السياسات الحمائية الضارة، لأنها تتناقض مع مبادئ الديموقراطية التي تنادون بها، وتنادي بإلغاء اتفاقياتكم المبرمة من طرف واحد وتؤدي لاحقاً لرفع الرسوم الجمركية على التجارة البينية، وتحديد كمياتها وتقييد حصصها، الهادفة جميعها إلى تثبيط وارداتكم، ومنع الاستثمار الأجنبي من دخول أسواقكم.

ولعلكم اطلعتم يا فخامة الرئيس على نتائج هذه السياسات الضارة، التي كانت تنادي في الماضي بمثل ما تطالبون به اليوم لحماية أمنكم الوطني وتوفير الاستقرار الاقتصادي تلبية لرغبات الناخبين، مما أدى إلى ارتفاع متوسط معدلات الحماية الجمركية إلى 20% في فرنسا وألمانيا، و40% في أميركا وبريطانيا، و85% في روسيا، لتساهم في تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي، وتدهور العلاقات التجارية بين الدول، وزيادة وتيرة الحروب الدموية بينها، والقضاء على الأخضر واليابس في بلادكم.

لعلكم يا فخامة الرئيس تتعظون من عبر ماضي حكومتكم الأليم المناهض للتجارة الحرة، إلا إذا تنازلتم عن لقب رئيس العالم الحر.