منذ عام ونيّف وأنا أكتب في صحيفة الوطن مقالة أسبوعية، ولا يمرّ أسبوع من دون أن أحار فيما أكتب. لا لأنه لا وجود لموضوعات جديرة بالبحث والتنقيب والسؤال وإبداء الرأي، بل لأن واقعنا السياسي والديني – ولا سيّما في هذه الأيّام السود – مشتبك غاية الاشتباك، وقد التبس الديني بالسياسي التباسًا شديدًا، فكل فكرة تطرحها لا بد أن يربطها غيرك بشيء في رأسه. ولأني تعرضت من قبل لإيذاء شديد من "بني العمومة"، حرمني النوم ليالي سودًا لا أعادها الله، على شيء قلتُه ببراءة، ظانًا - وبعض الظن إثم – أني أقول كلامًا علميًا، قاله علماء كبار قبل قرون، مستدلًا بأدلتهم فلم آت فيه بجديد، من قبيل قول أبي حامد الغزالي رحمه الله – مثلًا - : "الشك أوّل مراتب اليقين"، وعلماء الكلام المسلمين من السادة الأشاعرة وغيرهم، فلا أستحق عليه إلا الجدال بالتي هي أحسن، وبالحجج والبراهين، غير أن ما جرى كان غير هذا، فإذا بي أزرع الفتنة بين الشباب، وأغويهم، وأحثهم على الشكّ في الدين، وعلى الإلحاد – حتة واحدة -! وإذا أنا شيخ الملحدين – كما عبّر أحدهم -، وإذا أنا جهمي عنيد كما قال أحدهم في مقالة نشرها قبل أيام تعليقًا على مقالتي التي كتبتها على صفحات الوطن عن أحمد بن أبي دؤاد، والتي لم أزد فيها شيئًا على ما كتبه عنه مؤرخو أهل السنّة في تراجم الأعلام، كالذهبي وابن خلّكان، وإذا أنا صهيوني تارة، وليبرالي أخرى، وعميل صفوي تارة ثالثة.
هذا، وأنا لا أكتب في السياسة أصلًا، فأنا على مذهب الشيخ محمد عبده إذ يقول: "لعن الله السياسة، وساس، ويسوس". غير أنّ من عباد الله من صنّفك وفرغ من تصنيفك، فلا يمكن أن يفهم كلامَك إلا على أسوأ الأوجه، وأقبح الاحتمالات، كما أنّ من عباد الله، من يؤوّل كل شيء حتى السعلة تسعلها، والعطسة تطلقها، وكما أن من عباد الله من لا يفهم كلامك إلا على نحو سياسيّ، دع عنك المختصّين بنيّتك وتقلباتها، فهم يعلمون علم اليقين قلبَك وأحواله – يا للهول -، ويدرون أتمّ ما تكون الدراية إخلاصك ورياءك – يا خفيّ الألطاف نجّنا مما نخاف -، ثم يحاكمونك على شيء لا يعلمه من نفسك إلا الله تعالى.
تكتب المقالة، أو البحث، وتبذل جهدك في أن يكون ما تكتب واضحًا جليًا مفهومًا، وتحرص أشدّ الحرص على تنقيح أسلوبك، وتجليتِه للقارئ، حتى ترضى، وترى أنّك فعلتَ ما تستطيع؛ فإذا نشرتَه، إذا بك تفاجأ أن هناك من يشنّع عليك، ويلزمك بلوازم لا علاقة لها بمرادك، ويحاسبك على أشياء لم تدخل في رأسك فضلًا عن أن تخرج منه، بل يفهم كلامك على النقيض من مرادك، فينقلب السلب إلى إيجاب، والإيجاب إلى السلب، فلو قلت – مثلًا -: ذهب عبدالله إلى السوق، لفهمه هذا الرجل الطيّب: لم يذهب عبدالله إلى السوق! ولو قلت: لم يذهب عبدالله إلى السوق، لفهمه أخونا: ذهب عبدالله إلى السوق!
جربت هذا مرارًا، وعانيته كثيرًا، على صفحات "الوطن"، أو على تويتر والفيسبوك. وكنت قبل سنين، أكتب ما أوضح به قصدي، ثم مللتُ بعد هذا، لأن هذا يستنزف الطاقة والجهد، ولا نهاية له، وليس من المعقول أن أقضي عمري مبينًا ما هو بيّن، وموضحًا ما هو واضح. وسلّمت أمري إلى الله، ورضيتُ بالواقع؛ فالناس متفاوتو العقول والأفهام، مختلفو الأغراض والأهواء والنيّات.
وإذا كان القرآن الذي هو كلام الله تعالى، والذي وصفه سبحانه بأنه مفصل تفصيلًا، ومبيَّن تبيينًا؛ يختلف الناس في فهمه هذا الاختلاف الذي تراه، فكيف بكلام "كويتب" ركيك ضعيف، في القرن الخامس عشر الهجري، يتكلّف العربية تكلفًا، ويحاول الفصاحة، وينازع البلاغة، ويرجو أن يسلم كلامُه من الأخطاء النحوية الجليّة، فضلًا عن فصاحة الألفاظ، ودقّة التراكيب؟
جلست مرّة مع أحد الباحثين الفضلاء، وهو صديق من أصدقائي الذين أعتزّ بهم وبصداقتهم، فذكر لي أحد المؤلفين المؤثّرين اليوم، لا أرتضي منهجه، ووجدت فيه – أي منهجه – اختلالًا وتناقضًا يقوّضه تقويضًا، ويُعدم نتائجه صوابَها أصلًا، فكان مما قال لي: إن فلانًا هذا كاذب دجّال، لأنه قال كذا، وقال كذا، والصواب كذا وكذا. قلت لصديقي هذا: لم تفترض أنه دجّال وكاذب؟ لم لا تقول إنه واهم أو مخطئ؟ لم علينا أن نحيل الخطأ العلمي إلى مسألة تخص النزاهة؟ يكفي في الردّ على فلان أن يناقش علميًا، على طريقة أهل البحث والمناظرة وآدابها التي قررها علماؤنا، إن كنت ناقلًا فالصحّة، أو مدعيًا فالدليل، ثم يعاد على دليله بالنقض والاعتراض، أو بالتسليم فالإلزام. وتنتهي المشكلة! لم علينا أن نخوض في النيّات التي ليس العلم بها إلينا بل إلى رب العالمين؟
لعلّي أدرك سبب هذا التجييش والتحشيد، وسبب هذا الحال البائس الذي نعيشه، ولِمَ يتحوّل الحديث في عالم الأفكار والبحث إلى حرب ومناكفة، إنه التحزّب يا سادة، التحزّب الذي لا يهتم بالحقيقة من حيث هي حقيقة، بل ينظر إلى ما يترتب عليها من "مصالح" أو "مفاسد"، لا تتعلق بالمجتمع أو بالشعب أو بالأمة، بل بمصلحة "الحزب"، وما يمكن أن يجنيه منها، أو يخسره بسببها، ومن أجل هذا لا يناقشك أولئك علميًا، بل يكتفون بتصنيفك، ومحاكمتك، لأن هذه الإطلاقات المعتمدة على الخطابة، أسهل جدًا من النقاش العلميّ المتعب للأذهان، والمستغرق للأوقات بحثًا واستدلالًا.