حينما تكون لديك موهبة حقيقية في أي من المجالات الإبداعية، فأنت لا تحتاج إلى من ينظر إلى ملابسك لكي يقيّم عملك، ستيف جوبز المؤسس الشريك والمدير التنفيذي السابق، ثم رئيس مجلس إدارة شركة أبل، ظل يرتدي البنطال والقميص الأسود في معظم حياته وحتى لحظة وفاته، مارك زوكربيرغ مؤسس موقع التواصل الاجتماعي الشهير "فيسبوك"، لا يرتدي إلا الملابس البسيطة جداً، ويقدس الجينز ولا يحب تسليط الأضواء عليه، ولا الظهور العام، ويبدو خجولاً على خشبة المسرح، وحينما نقرأ رواية "الحب في زمن الكوليرا"، لا يمكن لنا أن نتذكر ما كان يرتديه ماركيز على الإطلاق، حينما ظهر على شاشات التلفاز متحدثاً عن تجربته العبقرية، وحينما كانت تقف الفنانة العظيمة أم كلثوم على خشبة المسرح، كانت ترتدي ملابس محتشمة جداً، رغم أن الوقت الذي ظهرت فيه أم كلثوم، كانت الموضة على أشدها وفي قمة تطورها من حيث الابتعاد عن الحشمة، وتسليط الضوء على الميني جيب والمكروجيب، ولكن المبدعين والمطورين والموهوبين جداً لم يكن اهتمامهم الأكبر بالشكل الخارجي بقدر ما كان على طريقة أداء أعمالهم، من حيث الإتقان والمهارة والعمل بشكل ممنهج ومتقن ومنظم، حينما تكون موهوباً كما يقول فلوبير، ولا تملك حظاً منذ ولادتك، عليك أن تصنع هذا الحظ من خلال الكد والعمل والانتقاد الذاتي، وألا تكون قنوعاً بل أن تطلب من ذاتك ما هو أفضل، أن توقد روح المثابر في داخلك، وعليك أن تعمل وتعمل حتى تتفجر عبقريتك، لأن الذين يولدون بعبقرية فطرية صاعقة حالات نادرة.

هذه المقدمة ليست فارغة، كما أنها ليست عبارة عن رص مشاهدات، لمن غيروا التاريخ الأدبي والفني والتقني، ولكن حينما تكون واحداً من المشاهدين والجمهور، لابد أن يكون لديك رأي، فكر، نقد لما يدور من حولك، وعلى الأخص حينما تقدم لك بعض الوجبات الإعلامية، وهي في أول الأمر تعرضه لك وتريد منك أن تكون واحداً من أهم متذوقي وجباتها، وهذا المتذوق لا يمكن أن يقول ما يود المنتج أو المنفذ أو صاحب القناة الفضائية قوله، لأنه لا يزال يمتلك كامل الحرية الفكرية لأن يعبر بأي شكل من الأشكال عن رأيه، من دون أن يستبيح الحدود الشكلية والأدبية.

وكنت قبل أيام أتصفح بعض مقاطع الفيديو من خلال برنامج "أنستغرام"، وشدني فيديو يتحدث فيه الكاتب الكبير "تركي الحمد" عن رأيه في المرأة، لا أعلم إذا كانت المقابلة قديمة أو حديثة، لكني أمعنت النظر وألقيت السمع إلى ما يقوله الكاتب، وكنت قد لاحظت خلسة وجود ساقين طويلتين في كادر المشهد، وهاتان الساقان وضعت فوقهما الأوراق، وشدت بهما شرابا أسود يكاد يتفجر، فيتداخل اللون الأسود للشراب بلون الجلد، وفي النهاية اكتشفت أن المقابلة كانت قد بثت لصالح إحدى القنوات الفضائية، وأشكر الله أن مقطع الفيديو لم يشاهده الكثيرون، وإلا لأصبحت ساقا المذيعة حديثا لا يمكن فضه في المجالس، وهنا مربط الفرس كما يقولون، بين أن تكون فعلاً موهوباً وواثقاً من نفسك ومن قدرة برنامجك على تجاوز الآفاق، وبين أن تعتقد أن البرنامج هو حق شخصي لك، ولا يهم المشاهد السعودي أو الخليجي أن يبدي وجهة نظره، في أن يحصل على مادة إعلامية أو وجبة ثقافية من دون أن يتشتت انتباهه، أو يعلق على وجود هذه القطعة الصغيرة من الملابس.

لا أقوم بفعل التطهير، ولكن ما يتوجب علي هو أن يتفهم بعض الذين يظهرون على شاشات القنوات الفضائية، العلم والمعرفة بأن الفكر الشخصي في ارتداء الملابس، أمر يجب أن يختلف تماماً عن الوضوح والشفافية بعدم الازدواجية، وأن الفضاء الخارجي الذي يطل من خلاله على الجمهور يجب أن يُحترم، وأنه ليس مجالا لاستعراض أهم مواطن الفتنة، إنني أتعجب من الذين يقبلون الظهور في هذا البرنامج، كيف يستطيعون القبول؟ وعلى الأخص أن الظهور به ليس "ضربة معلم"، ولا يمكن أن يصنع له شهرة لامعة وبراقة إذا كان من راغبي الشهرة، والأدهى والأمر من ذلك حينما ظهر أحد الشيوخ الأفاضل في هذا البرنامج، وبقيت الساقان ذاتهما تظهران في الكادر المقزز، أظن أن هذا هو الإعلام الذي لا يشبع ولا يغني من جوع، إعلام فارغ يقدم وجبة ثقافية تعتمد على استعراض مفاتن المذيعة، مازلت أقول إن طريقة حياتك العادية ومظهرك يجب أن يختلفا تماماً عن ظهورك أمام الجمهور، تصور فقط هو مجرد تصور لا أكثر ولا أقل من ذلك، أن يظهر مذيع وقد فتح قميصه حتى منتصف صدره، وارتدى سلاسل، وبات يقدم برنامجاً اجتماعيا أو ثقافياً، معلناً أن هذا المظهر هو ما يظهر به في حياته، هل يمكن لك أن تتقبل ذلك؟ هل مالك القناة سيتقبل الصدر المفتوح للمذيع؟ هل مدير القناة سيتواطأ مع المذيع على أن يكون شفافاً، وألا يداري مظهره الخاص أمام العامة؟ لا أظن ذلك، ولكنه التسويق المخيب وطغيان الصورة على المضمون!

هناك ثمة جمهور غير واع سيقول إن المقال عبارة عن غيرة نساء، لذا، أتمنى من هذا الجمهور ألا ينتقد لاعبا أو مذيعا لبرنامج كرة قدم أو فنان، لأن ذلك سينطبق عليه أيضاً بأن نقده مجرد غيرة رجال!