ثمة تكهنات أو تقديرات متباينة حيناً ومتناقضة أحياناً تتعلق بالسياسة الروسية تجاه أزمات وقضايا الشرق الأوسط الساخنة، وفي مقدمها الأزمة السورية، لجهة مكوناتها الرئيسة وأهدافها الجيوستراتيجية والتكتيكية.
وتتطلب القراءة الموضوعية للسياسة الروسية الشرق أوسطية تظهير صورة نماذج من السجالات والأفكار التي تطرحها النخب السياسية والفكرية والإعلامية والعسكرية الروسية.
مؤخرا، وحسب صحيفة "موسكوفسكي كومسوموليتس" اقترحت مجموعة من المحللين السياسيين والناشطين الاجتماعيين الروس على الرئيس بوتين عبر رسالة رسمية لخبراء معهد التحليل السياسي للبنية التحتية برئاسة يفغيني تونيك، وجهوها إلى بوتين. إنشاء اتحاد كونفدرالي بين روسيا وسورية. وبحسب وجهة نظرهم، لن يجد الإرهابيون وقوى الشر الشجاعة الكافية للانقضاض على دمشق وضواحيها.
وذكر تونيك الرئيس بأنه "في حال احتلال سورية من قبل الإرهابيين، الذين يتخفون تحت مظهر المعارضة المعتدلة، فإنه سينفتح أمام الولايات المتحدة وحلفائها طريق جيوسياسي مباشر نحو إيران، وبعد ذلك، نحو السيادة الروسية عبر بحر قزوين. وفي مثل هذا التطور للأحداث، فإن أعداء روسيا سيتمكنون من إحكام "طوق الاحتلال" حول دولتنا، حيث تحدنا من الشمال دول بحر البلطيق، ومن الغرب - أوكرانيا، ومن الشرق -اليابان، ومن الجنوب جورجيا ودول الشرق الأوسط".
وتضمنت الرسالة اقتراحاً يقضي بـ"النظر في إمكانية إنشاء كونفدرالية تضم روسيا وسورية. أي توحيد البلدين في إطار العمل العسكري والسياسة الخارجية في إطار عمل مركز تنسيقي واحد. وفي حال إقامة هذا الاتحاد، فإن أي اجتياح للأرض السورية يعدُّ كإعلان حرب ضد الاتحاد الروسي. ويفرض على الولايات المتحدة وحلفائها التخلي عن مواصلة سياسة مفاقمة الوضع في سورية".
كما ذكَر محللو المعهد أن هناك خطوة مشابهة أقدمت عليها الحكومة الروسية في عام 2008 "واحد من أشكال إنجاز هذا التحالف، يمكن أن يصبح عقد اتفاق حول التحالف والتعاون الإستراتيجي، شبيه بالاتفاق الذي عقدته روسيا مع جمهورية أبخازيا وجمهورية أوسيتيا الجنوبية، والذي يعتمد على التنسيق في مجال السياسة الخارجية، وتشكيل قوة دفاعية - أمنية بما يضمن حماية الحدود الحكومية، ومن المؤكد أن التصديق على مثل هذا الاتفاق يمنح الفرصة للحد من تزايد تفاقم الوضع، ويسهم في استتباب الأمن والاستقرار في عموم المنطقة".
وعن التعديلات اللافتة في وثيقة العهد الجديد للسياسة الخارجية الروسية التي أقرها الرئيس بوتين في 1 ديسمبر 2016، كتب في مجلة ناشونال إنتريست آريغ غالستيان، وسيرغي ميلكونيان، رئيس مركز الدراسات الدولية في موسكو. إن الوثيقة تعد بمثابة برنامج يضم وجهات نظر ومبادئ رئيسية تلبي متطلبات إستراتيجية موسكو في السياسة الخارجية. وأول ما يلفت القارئ في تلك الوثيقة هو التركيز على المكانة السياسة الجديدة لروسيا على الساحة الدولية. وفي مقابل وثائق رسمية سابقة، يظهر المفهوم الجديد الحاجة إلى تعزيز مكانة روسيا كلاعب مركزي ذي نفوذ في العالم المعاصر. ونتيجة له، يعتقد إستراتيجيون روس أنه في المستقبل لن تسوى أية قضية سياسية دولية دون مراعاة مصالح موسكو ومشاركتها المباشرة. ورغم ذلك، يرى عدد من الخبراء الروس أنه ما زال من المبكر التوصل إلى تلك النتيجة، وخاصة أن أغلب الأزمات الدولية التي انخرطت فيها روسيا، لم تحل بعد.
ولفت غالستيان وميلكونيان إلى تركيز الوثيقة الجديدة على خطر الإرهاب الدولي، حيث تشير روسيا، ولأول مرة، إلى أن مشاكل خاصة بعملية العولمة هي التي أدت إلى انتشار إيديولوجية التطرف ونشاط المنظمات الإرهابية. وإلى استعداد موسكو لمقاومة أية محاولة لاستخدام حقوق الإنسان كذريعة لممارسة ضغط سياسي وتدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة بهدف خلع حكومات شرعية.
ورأى جايمس ماغ الباحث في مركز ذا إستراتيجيست التابع للمعهد الأسترالي للسياسات الإستراتيجية، أنّ الاقتصاد الروسي واجه سنة 2014 نكستين كبيرتين: عقوبات دولية بعد ضم روسيا لأوكرانيا، وانهياراً في أسعار النفط الدولية. وفي ذلك الوقت، شكل النفط الخام أكثر من ثلث الصادرات الروسية من حيث القيمة. وأنّ الإنفاق العسكري الروسي كان محمياً من الركود الاقتصادي الأخير. لكن كل ذلك قد يكون على وشك التغيّر الآن، بحسب الباحث. فالضغوطات الاقتصادية تتزايد ويمكن للكرملين أن يكون مجبراً على اللجوء إلى واحد من خيارين: الإبقاء على العمليات الخارجية أو المضي قدماً في التحديثات العسكرية.
وكانت موسكو قد رأت في عملياتها العسكرية داخل سورية "تسويقاً فعالاً" لمعدّاتها العسكرية. في مارس الماضي، قال بوتين إن مبيعات الأسلحة الروسية سنة 2015 تخطت 14 مليار دولار، فيما تخطت الطلبات الخارجية المحتملة 56 مليار دولار أميركي. ولفت ماغ النظر إلى أنّ قيمة الروبل بالنسبة إلى الدولار انهارت سنتي 2014 و2015 حين بدأت العقوبات وأسعار النفط المنخفضة ترخي بثقلها على الاقتصاد الروسي. مبيعات الأسلحة سنة 2014 -2015 بدت متشابهة بالدولار الأميركي، لكنّ القيمة بالروبل تضاعفت خلال الفترة نفسها.
واستبعد ماغ أن يكون بيع الأسلحة وحده قادراً على تحسين الاقتصاد الروسي على المدى البعيد، غير أنه يبقى "مصدراً لا غنى عنه" لعائدات روسيا. وكل عملية بيع تتمتع بتأثيرات جيو-سياسية. فزبائن المعدات العسكرية الروسية خلال آخر عشر سنوات كانوا: الهند 40 مليار دولار سنة 2015 كما يقول معهد ستوكهولم لأبحاث السلام العالمي، الصين 20 مليار دولار، الجزائر 12 مليارا، وفيتنام 7.5 مليارات. وفي نفس الوقت، بلغت المبيعات الروسية للأسلحة 2.5 مليار دولار لسورية، و1.5 مليار دولار لإيران. وشكلت مبيعات الطيران حوالي نصف الصادرات 45.5% والصواريخ 16.6% وأنظمة الدفاع الجوي 10.1%.
أما الفيلسوف والمؤرخ الروسي ألكسندر دوغين المعروف باسم "راسبوتين بوتين" أو "عقل بوتين"، والذي يتقن 10 لغات ويدرّس علم الاجتماع في جامعة موسكو الحكومية، ووضعته واشنطن على لائحة العقوبات بسبب دفاعه عن قتل الأوكرانيين. فأطلق دوغين نظرية في مواجهة "حكومة عالمية" تقودها نخب عولمة مخادعة. ويدعو فيها إلى قيام عالم يتألف من قوى إقليمية كبيرة، حيث تقود روسيا أمة "الاتحاد الأوراسي" فيما أنشأ التيار الأوراسي الدولي ليحقق هذه الفكرة. أمّا أوراسيا، فهي عملياً أراضي الاتحاد السوفياتي التي شكّلت وحدة تاريخية من شعوب وإثنيات كانوا جزءاً من الإمبراطورية الروسية.
ويعتقد دوغين أنّ الخصم الحالي لأوراسيا ليست الولايات المتحدة فحسب، لكن الأطلسية، المحور الذي تتعاون من خلاله الولايات المتحدة وأوروبا وكندا عبر المحيط الأطلسي. فهذه الأمم الليبيرالية والساحلية تعلي من شأن الفردية وقوى السوق.
ويؤكد الباحث الروسي ديمترى ترينين، مدير مركز كارنيغي في موسكو، في كتابه "هل يجب أن نخاف من روسيا"، أن الإمبراطورية الروسية ليست بصدد العودة، ولكنها أيضا لم تختف إلى الحد الذي يمكن تجاهلها في صراع القوى العالمية. هناك تحركات يمكن أن يقوم بها بوتين لضمان مكانه على طاولة المفاوضات، وعلى الجميع أن يراقب تلك التحركات عن كثب.
ولعل الهدف النهائي للدور الروسي في سورية هو الحصول على اعتراف من الولايات المتحدة كقوة ندية. فمستقبل روسيا مرهون بأدائها الاقتصادي وبتقديمها للسياسة الخارجية كمورد للتطور الداخلي.