في أحد الاستطلاعات الصحفية التي يتكرر موضوعها ونتائجها في الصحف السعودية، تحدَّث عدد من الشباب السعوديين عن نظرتهم إلى "العمل اليدوي" فيما وردت تسميته – على وجه التعميم- في الاستطلاع (الجزيرة 2/3/ 2004)، والمقصود –بالطبع- مهن وحِرَف محدَّدة في الذاكرة الثقافية كالحدادة والسباكة والدباغة والسمكرة والنجارة وما إليها.
وكانت نتيجة الاستطلاع مخفقة –إجمالاً- في الدلالة على وجهة إيجابية لدى معظم الشباب نحو قبولهم بممارسة هذه المهن. ولم يكن حديثهم عن مشقتها وتدنِّي أجورها وضآلة الكسب منها في تعليلهم للنفور منها، أصدق ولا أكثر ألماً من حديثهم عن نظرة المجتمع إليها.
نظرة المجتمع المتدنِّية إلى مهن محددة، فعل ثقافي. وحين نصفها بهذه الصفة "الثقافية" فإننا ننفي عنها الجِدَّة والآنية؛ فالثقافة –في هذا السياق- ذاكرة، ومادامت ذاكرة فهي مرتبطة بالماضي، ماضي الخبرة التاريخية للمجموعة الثقافية. وهنا تكمن المشكلة التي لا تنفصل فيها النظرة إلى مهن محددة، عن النظرة إلى التجدُّد الثقافي عموماً الذي ينقل المجتمع إلى المستقبل، ويهيئه لهذه النقلة.
منذ القديم كان العرب يقفون من هذه المهن التي يشملها مصطلح "الصنائع" لدى القدامى، موقف المجافاة والتباعد، وينظرون إلى أصحابها نظرة استصغار وانتقاص. وبعض شعر الهجاء في شعرنا القديم حافل بتحقير الخصم ونفيه، بنسبته إلى بعض تلك الصنائع المادية.
وليس من سر في عيب العرب لتلك الصنائع، سوى شيوع البداوة في الحياة العربية، وارتباطهم بالتنقل والترحال، وهذه الحياة البدوية بطبيعتها تنشئ -فيما قال ابن خلدون- العصبية العرقية، عصبية النسب. في حين كانت تلك الصنائع علامة على بيئة حضرية ومدنية اختلط فيها العرب بغيرهم.
يقول ابن خلدون "والعرب أبعد الناس عن الصنائع، والسبب في ذلك أنهم أعرق في البدو وأبعد عن العمران الحضري وما يدعو إليه من الصنائع وغيرها... ولهذا نجد أوطان العرب وما ملكوه في الإسلام قليل الصنائع بالجملة حتى تُجلَب إليه من قطر آخر. وانظر بلاد العجم من الصين والهند وأرض الترك وأمم النصرانية كيف استكثرت فيهم الصنائع واستجلبتها الأمم من عندهم".
وقد نقول إن المشكلة هكذا لا تخص العرب بوصفهم إثنية محددة، بل هي صفة الثقافات الشفهية والتقليدية التي تأبى التجدد وتؤثر العزلة والانغلاق. فهذه الثقافات تنطوي على أعراف ومعايير غير عقلانية، وتصعب محاجّتها باستدلالات عقلانية أو أخلاقية أو دينية.
إن الزمن في هذه الثقافات يبدو وكأنه –في بعض الجوانب- قد توقف، بسبب حمولتها من الماضي، ووجهتها إلى تأبيده. فهي لا تكتسب ثقافة جديدة، وهي تعيش بواسطة وتقدر بغيرها، وتأبى على الدوام أن تتغير معاييرها التي استنبطتها من الماضي عن طريق الانتقاء والانتخاب والتقليص من خبرة الماضي المتنوعة والواسعة.
فمن المؤكد أن الماضي العربي الإسلامي أغنى وأثرى وأوسع من أن ينحصر في الهُزء بصنعة من الصنائع أو تحقيرها، خصوصاً حين لا تستغني عنها حياة الناس. ولكن الثقافة بوصفها ذاكرة الجماعة، لا تسجل الماضي كله، وإنما تنتقي منه.
لذلك لا تبدو أي ثقافة جامدةٍ مستحيلةً على التغيير، وليس بوسع أي ثقافة تقليدية أن تصمد إلى الأبد من دون أن تتجدد؛ لأنها إن لم تفعل ستنعزل وتموت. والتجدد هو نوع من حوار الحياة والموت في الثقافة؛ فالقيم والصور والأفكار الميتة لا تنزاح عن الصدارة حتى تخنق الأنفاس أحياناً، فتؤذن بتصدُّر قيم حية جديدة.
ومن البدهي ألا نتصور الثقافة من دون تصور الفاعل الإنساني والاجتماعي، وراءها وفي غضونها، حتى في تلك الوجهات النظرية التي تطمسه بوصفه ذاتاً وتضعه في موضع المفعول لما هو أكبر منه ثقافياً أو اقتصادياً. فقد أحدث بعض الملوك والقادة نقلات ثقافية اجتماعية في حياة شعوبهم، كما أتاحت بعض الأنظمة أو بعض الفئات الاجتماعية أو الفكرية حدوث هذه النقلات.
إن حدوث نقلة ثقافية يستلزم نسياناً وتذكراً، أو كما قلنا من قبل موتاً وحياة. فإذا كانت الثقافة الاجتماعية الفاعلة في لحظة تاريخية، ذاكرة منتخبة من الماضي (وليست كل الماضي) فينبغي إحداث نسيان لما أصبح خطراً أو عائقاً من هذه الثقافة على مجتمعها، وتذكُّر أو انتخاب ما يصنع ثقافة متجددة.
وقد يحدُث مثل هذا النسيان بشكل إلزامي، ومثال ذلك الثقافة العنصرية النازية في ألمانيا عام 1945، حين فرضت قوانين ألمانيا الجديدة بعد الحرب، وجهة لثقافة ديمقراطية، تجرِّم التعصب للعرق والفكر السياسي، وتحتِّم نسيان الثقافة النازية ورموزها ودعاياتها وقوانينها.
أو تحدُث النقلة الثقافية وما تستلزمه من نسيان، بتطور معرفي واكتساب ثقافي، يترتب عليه إعادة تقويم للثقافة واستلهام صور أخرى من الذاكرة، وهو ما حدث في منعطفات التجديد في الثقافات المختلفة، ومنها ما حدث في ثقافتنا العربية الإسلامية في العصر العباسي، وفي العصر الحديث، وفي الثقافة الأوروبية منذ عصر النهضة إلى عصر ما بعد الحداثة.
وقد لاحظ المؤرخون للتحولات الثقافية الاجتماعية حدوث نشاط تلقائي أو مخطط له في استبدال العلامات الثقافية والتسميات وفي حدوث تحولات في اللغة في مراحل التحول الثقافي الاجتماعي ولحظات التجدد الحضاري. فالثقافة ليست مخزوناً ذهنيا ونفسياً من الصور والقواعد والمعايير على نحو مجرَّد، وإنما أشكال من الدلالة عليها ولغة لسانية وسيميولوجية تحفظها وتنقلها؛ فإذا تغيرت هذه اللغة الثقافية تغير مدلولها النفسي والذهني، أي تغيرت الثقافة.
وهنا يحضر – مثلاً- قيصر روسيا بطرس الأكبر (1672-1725) الذي أحدث ثورة ثقافية عن طريق اللغة الثقافية، وذلك بفرض أزياء جديدة وسيماء معينة على الروس. وليست ملابس الأطباء وخوذات المهندسين وملابس العمال في الشركات، أزياء بلا دلالة ثقافية: دلالة قيمة اجتماعية واختصاص علمي ومهنة.
إن الانتقاص لمهنة من المهن من حيث هو معيار ثقافي اجتماعي، يتغير إذا أُخِذت تلك المهنة في سياق جديد، يصنع لها علامات ثقافية مختلفة في تسميتها وملابسها ومجتمعها.
ولنتذكر –في هذا المعنى- انخراط آبائنا السعوديين في أرامكو منذ الخمسينات من القرن الماضي، حين عملوا في شتى المهن من دون شعور بالحرج. والسبب في ذلك هو تغير سياق الدلالة عليهم فيها، فقد كان من شأنه أن يكسر مألوفية تلك المهن لديهم، وأن تحوطهم علامات الدلالة عليهم وعلى المهنة ضمنه، بسياج من العزلة عن مجتمعهم التقليدي، وهالة من كبرياء.
وإذا كانت قيمة المهنة لا تنفك عن العلامات التي تدل عليها، فلا يمكن أن نغفل عن علامة عمّقت انتقاص بعض المهن وضاعفته في مجتمعنا، منذ الطفرة المالية في منتصف السبعينات الميلادية وإلى الآن، وهي ارتباط صورتها الذهنية بعمال أجانب يكدحون فيها بأجور زهيدة وساعات عمل شاقة.