اتجهت بلديات المناطق والمحافظات السعودية لتحديد أسعار المطاعم مؤخرا. فبسبب انخفاض أسعار اللحوم شعر البعض بالظلم من التاجر "الجشع" الذي يرفض تخفيض الأسعار في مطعمه. وأعلنت وزارة التجارة والاستثمار تأييدها لذلك عبر إعلانها عن عزمها التدخل في ضبط الأسعار عندما تشهد ارتفاعات "غير مبررة". وأزعم أن ذلك خطأ يجب تصحيحه.
لو حدث أن طالبت مجموعة من الناس بتحديد أسعار البيتزا لظنهم جشع المتنافسين آنذاك واستجابت الحكومة، لربما لم تنشأ فكرة مايسترو بيتزا التي لاحظ مستثمرها هامشا جيدا للمنافسة.
حالة مايسترو بيتزا مثال لعمل السوق مع حرية التسعير، إذ إن مايسترو بيتزا هو هدية "اليد الخفية" مقابل قرارنا بعدم التدخل في الأسعار. فعندما ترتفع الأسعار في قطاع ما، يدخل المستثمرون إلى القطاع بسبب جاذبية الاستثمار فيه، وتتحسن الجودة، وتتوازن الأسعار، وتُستحدث الوظائف (في عام 2014 أعلن مايسترو بيتزا عن 100 وظيفة للسعوديين بمرتبات بين 5 - 7 آلاف).
يقول البعض إن احتدام المنافسة أسهم في تخفيض الجودة بسبب اضطرار المنافسين لخفض أسعارهم للبقاء في السوق. وإذا صح ذلك فالأثر مؤقت. فمع مرور الوقت سينتبه أحد المتنافسين، أو مبادر جديد، ويدخل بإستراتيجية جديدة تعتمد على رفع الجودة مقابل زيادة السعر، وسيكافئنا السوق مرة أخرى.
قد يكون التدخل مبررا في حالات محدودة، إذ قد تضطر الحكومات للتدخل لحماية صناعة إستراتيجية، أو بسبب ممارسات الدول الأخرى (كالإغراق)، أو بسبب تدخّل حكومي آخر أوجدته ضرورة اجتماعية أو سياسية. وهو ما لا يمكن تصوره في قطاع المطاعم. أما التدخل غير المبرر فإن الأدبيات تشير إلى أن له دوافع، منها: توفير أسعار مناسبة للمواطنين، أو كسب التأييد الشعبي.
وبالرغم من نبل دافع توفير الأسعار الجيدة للمواطنين، فإنه يجب علينا التفرقة بين النوايا والنتائج. فعندما نحدد الأسعار فإننا نحقق المقصد على المدى القصير، والذي سرعان ما ينعكس سلبا على منظومة الحوافز في الاقتصاد على المدى الطويل، إذ لا ينتج عن هذه السياسة سوى التسكين الآني الذي سرعان ما يزول بعد أن تظهر الإفرازات الجانبية، مثل تدهور الجودة بفعل شعور التاجر بالأمن من تهديد دخول المنافسين. أما الدافع الآخر، فهو محاولة إرضاء المواطن عبر تصوير الموقف على أنه مواجهة بينه والجهاز الحكومي من جهة، والتاجر "الجشع" من جهة أخرى. إذ تعزف على وتر طبيعتنا البشرية التي ترسم انطباعا جيدا عن أولئك الذين يبدو لنا (وربما لهم) أنهم يدافعون عن مصالحنا. هل هذه سياسة سيئة بشكل مطلق؟ هذا يعتمد على الغاية، وعلى إذا ما كانت الغايات تبرر الوسائل.
وبعيدا عن الدوافع، فأغلب الظن أن المطاعم التي خفضت أسعارها فعلت ذلك اضطرارا بسبب وجود منافسة عالية في المناطق التي تعمل بها، في حين تمكنت المطاعم التي تقع في المدن ذات المنافسة المنخفضة من المحافظة على مستويات سعرية عالية. إذ إن التاجر بطبعه يسعى إلى تعظيم الربح. هل هذا جشع؟ ادع الحكم الأخلاقي، إلا أنه مفيد على المدى الطويل.
فمع مرور الوقت سيلمح المبادرون إلى ارتفاع الهامش الربحي في هذه الصناعة، وسيدخلون السوق بهدف مشاركة الربح. وبتحقيقهم أهدافهم تتحقق أهدافنا المتعلقة بإنعاش الاقتصاد، واستحداث الوظائف، ورفع جودة المنتجات، وتوازن الأسعار مرة أخرى.
إلا أن احتمالية سرعة قدوم المبادرين تعتمد على قيام الوزارة بدورها في رفع كفاءة السوق. ولذلك، فإنه ينبغي أن ينصب التركيز على دراسة وفهم الأسباب التي تمنع آلية السوق من العمل (مثل الاحتكار، وارتفاع حواجز دخول السوق، وضعف إقبال المبادرين)، وليس على معالجة الآثار الناتجة عن اختلال آلية السوق. فارتفاع هوامش الأرباح لفترة طويلة هو أحد أعراض مرض تدهور كفاءة السوق ومنسوبيه.
إن الخيار الإستراتيجي هو ترك الأسعار للسوق، على أن تعمل الوزارة على 4 جوانب ترفع من كفاءة السوق وهي:
1/ حماية المستهلك (مثل منع الغش، وتوفير معلومات كافية عن المنتجات، ومحاربة الاحتكار).
2/ تسهيل دخول المنافسين عبر تذليل حواجز دخول السوق (مثل التسعير، ومدة وتكلفة الإجراءات الحكومية).
3/ التأكد من عدم وجود منافسة غير عادلة (مثل خفض السعر تحت التكلفة لطرد المنافسين).
4/ توعية الناس بالبدائل والأسعار المتاحة.
إلا أن أخطر وصفة اقتصادية -في تقديري- هي ترك الأسعار للسوق دون العمل على رفع كفاءته. عندئذٍ، يُمكن أن يصبح المواطن ضحية للسوق بسبب سوء التنظيم، وليس بسبب سوء التجار.
ربما ترى الوزارة أن تركز على فهم ومعالجة الأسباب التي تمنع أو تأخر تصحيح الأسعار. مثلا، إذا وجدت الوزارة أن السبب في ضعف إقبال ووعي المبادرين بالفرص المتاحة، فإن بإمكانها أن تُوعز لصناديق دعم المشاريع بأن تنشط في إيجاد ودعم المبادرين في المناطق والقطاعات التي تلحظ فيها هوامش مرتفعة للربح. وعندما تفعل ذلك فإنها تحوّل أزمة ارتفاع السعر إلى فرصة لاستحداث وظائف جديدة، وتأهيل تاجر سعودي إضافي، وتوفير أسعار وسلع متنوعة للمواطنين. أليست هذه أهدافنا؟