جماليات بعض الكتب تبعث في داخلك الدهشة البيضاء، وتهز في بئر روحك أطراف تفكيرك، فتحس بدبيب خافت، وحيوية مخبوءة ومضمرة، بشرط أن يتعالق ذلك المنجز المقروء مع حواضنك الوجدانية والذهنية، وأن يحقق لك مناخاته الدافئة، وروافده الضاجة بالعمق والحدس والإفصاح وجمر المعرفة، وهزة الافتتان والوهج الحياتي. وهناك من الكتب ما يعرض جسده كبضاعة تالفة غير صالحة للاستخدام الآدمي، يأخذك إلى عتمة اللغة، وسراب المحتوى، وتمزق الرؤيا، وهبوط الصنعة، رأيت هذا وذاك، من خلال المحافل والمعارض والفعاليات الثقافية داخل المملكة وخارجها. رأيت من يقتعد مكانا قصيا في المناسبات، مستغرقا في توقيع كتابه، في حالة من الانغمار داخل قميص النرجسية الطاغية، والفوقية الخاوية، والحضور الهزيل، في سعي دؤوب لإشاعة الرداءة، ونفض غبار الغبار، يحرث بـ"يراعته" على صدر ذلك المنتج البائس، والمخزون الباهت، الطافح بالبلادة وانحجاب الوعي، يقول الشاعر "ما كل من هز الحسام بضارب.... ولا كل من أجرى اليراع بكاتب".
ترى هل توقيع الكتب يخضع لمعيارية جمالية ومعرفية، محكوم بالروادع الصارمة، بعيدا عن طفرات الطلاء، ومسرحيات الردح، ومنظومات المتاجرة والعبث؟.
لست ضد "التوقيع"، فهناك كتب وكتاب يستحقون الاحتفاء والانتصار لمنتجهم، واستجلاب توقيعاتهم، لما تشكله إبداعاتهم من فتح للأذهان، وصيانة للوعي، واشتغالات وتناميات فكرية شديدة الإخلاص، وابتناءات إدراكية غير معطلة للتشوف والتيقظ، معافاة من السقم المعرفي، وانطفاء الحلم، ومصادمة اللحظة والتاريخ، متسلحة بمجاهداتها ضد الاندحارات اللاواعية والمتوهمة، قادرة على وأد وطمر الهذيان والتبهيت، والنفي والاستلاب الممقوت. لم أكن أظن أن تواقيع الكتب تدخل في عالم التجارة والتسليع، حتى قرأت استطلاعا يؤكد أن الناشرين التقطوا بحسهم التجاري المحض الفرصة الكامنة في النسخ الموقعة بحبر مؤلفيها، بوصفها وسيلة تسويقية تكاد لا تقاوم من قبل القراء، تقول "ندى حطيط" في جريدة "الشرق الأوسط": الاحتفاء بالكتب والكتاب في عمومه ظاهرة حضارية، ولا شك أن فكرة مقابلة روائي معروف، أو مفكر أو شاعر مشهور، والحصول منه على نسخة موقعة بحروفه، تبدو عملا شديد الإيجابية، ولكن المعنى السامي لهذه الفكرة اختطف من قبل بعض التجار الناشرين، فحولوه إلى فخ اجتماعي، يتم من خلاله إطلاق الرداءة وانعدام المعايير في فضاء الثقافة العربية، فتلك حسناء لا تحسن إلا الشكل الحسن، تطلق "ديوانها" الشعري، مكتسبة شرعية مزيفة كشاعرة مجلية، بينما نصوصها أقرب إلى ضجيج الأسواق، وذلك "روائي" لم يقرأ "ديستوفسكي" ولم يسمع "ببلزاك" يوقع لرفاقه ثرثرة أشبه بحديث عابر، يسميها رواية، مطالبا بإدراج اسمه على لوائح المرشحين لجوائز الروايات العربية".