أورد القاضي التنوخي المتوفى أواخر القرن الرابع الهجري في كتابه "الفرج بعد الشدة" قصة مفادها أن شابا بغداديا فقيرا رأى في منامه من يقول له "أن اخرج لمصر فإن غناك هناك".

لم يكن لدى الشاب ما يخسره، فقرر السفر إلى مصر، ولكن ما لبث أن ضاق به الحال هناك حتى خرج يتجول بحثا عما يأكله، فقبض عليه بعض حرس المدينة بعد أن أنكر حاله، وأخذ يسأله عن بلاده وعن سبب قدومه إلى مصر، فصدقه الشاب القول وأخبره عن رؤياه في منامه.

ما كان من الشرطي إلا أن سخر منه قائلا: ما رأيت مغفلا مثلك، والله قد جاءني في منامي من يحثني على الرحيل إلى بغداد بمحلة كذا، في دار وصفها كذا، ويقال لها دار فلان، ودعاني إلى الحفر تحت سدرة هيئتها كذا، لأستخرج منها كنزا مدفونا هناك، والله ما فكرت في هذا الأمر ولا عزمت على الرحيل قط، وها أنت أمامي تترك قومك وبلدك وتتغرب من أجل رؤيا؟!

فدهش البغدادي بعد أن سمع اسمه ووصف داره على لسان المصري. انطلق الشاب بعد الإفراج عنه من غده إلى بلده ليقتلع السدرة التي كانت في داره، ويستخرج الكنز المخبوء تحتها، ليعيش بقية عمره ثريا من ذلك الكنز.

تكرر ورود هذه القصة في ألف ليلة، كما وردت محورة بعض الشيء في "تاريخ العدواني" ذلك الكتاب القيم الذي يعرّفنا بكثير من أحوال المغرب وشمال إفريقيا.

ما تغيّر في قصة العدواني هو الفضاء المكاني لرحلة الشاب الفقير، فجاءت "طنجة" مكان بغداد وجاءت "الجزائر" مكان مصر.

شاعت صور هذه الحكاية في المرويات العربية الشعبية، فلا يكاد يوجد بلد عربي دون أن تكون لديه نسخة منها تقريبا، إلى أن ظهرت آخر نسخة أدبية منها على يد باولو كويلو في روايته واسعة الانتشار "الخيميائي" فأثار ذلك كثيرا من الجدل حول طبيعة ما قام به كويلو تجاه التراث العربي بين من يسمه بالسطو، ومن يراه ضمن دائرة الاستلهام المشروع.

لعل الفكرة الأساسية في رواية الخيميائي وسابقاتها من حكايا التراث العربي، هي الفكرة ذاتها التي عبّر عنها الشاعر الإنجليزي "تي إس إليوت" في رباعياته عندما قال: "تكون نهاية كل اكتشافاتنا بالوصول إلى حيث ابتدأنا، عندها نعرف المكان نفسه للمرة الأولى خلال بوابة لم نطرقها من قبل". وهي فكرة تحوي جانبين: أحدهما يدعو إلى السكون، والآخر يحث على الحركة، وهما العنصران اللذان يشكلان جدلية الوجود البشري بشكل عام.

فهناك من تجذبه فكرة وجود الكنز تحت قدميه بصرف النظر عن طريقة اكتشافه أو الاستفادة منه، وهناك من تجذبه فكرة الرحيل إلى الهدف دون اكتراث بالحال التي تكون عليها نقطة النهاية.

لعل انفتاح الفكرة نحو قراءتها من الجانبين أحد أهم  أسرار شيوعها في المرويات الشعبية، ولعله أيضا ما يفسر الرواج الفائق الذي حظي به عمل باولو كويلو.

ولكن هناك مستوى أعمق، قد تقف بنا عليه هذه الفكرة، وهو وعي الإنسان القديم بالحركة الدائرية للكون وتمثله لهذه الحركة، باعتباره إما امتدادا له أو نسخة مصغرة عنه.

هذا التمثل الذي انعكس في أساطيره وفي طقوسه الدينية، إذ كثيرا ما يصادفنا فيها التعبير عن رحلة الإنسان إلى اليقين في أشكال وحركات دائرية، إذ تكون النهاية هي البداية ذاتها عند طروقها من اتجاه آخر، كما أشار أليوت.

فرغم أن الغاية أو "الحقيقة" قابعة في نقطة البداية، إلا أن الانفتاح عليها لا يكون بغير السعي المستمر والحركة الدائبة.

لعل هذا المستوى الأعمق هو ما عبّر عنه الشاعر الفارسي الصوفي "فريد الدين العطار" في ملحمته "منطق الطير" التي وصف بها رحلة الطيور ومسعاها إلى الالتقاء بالطائر الأسمى "السيمرغ" والاقتباس من سموه وسعادته الدائمة.

ولكن بعد تساقط معظم الطيور التي بدأت الرحلة وانكفائها عن مواصلة الطيران، لم يصل إلى "ميقات التجلي" سوى ثلاثين طائرا.

اكتشفت تلك الطيور الثلاثين ما لم يكن في حسبانها حينها. عندما عرفت أخيرا أن "السيمرغ" ليس إلا انعكاس ذواتها بعد وصولها محملة بالمعارف المكتسبة من مسيرها، وانكشافها على ما كانت تجهله من الحقائق.