يختلف الكثيرون حول تخفيض نسبة القبول في الجامعات إلى (50%)، بل وعلى الأرجح يعارضونه، على اعتبار أن المؤهل الجامعي سلاح لحامله نحو تحصيل وظيفة، أو يمنحه فرصة مضافة ليجد عملاً، هذا إلى جانب كونه يعطيه مكانة اجتماعية تجعله بمؤهله مقبولاً اجتماعياً، بعد أن أصبح المؤهل العلمي معياراً هاماً في تقييم الأفراد علمياً وثقافياً واجتماعياً، وتبعاً لذلك الاعتبار اشتد الحرص على الالتحاق بالجامعات من قبل الأفراد وذويهم، وقد ساعد على ذلك النقص في الموارد البشرية الوطنية لذلك المؤهل في بدايات مرحلة التنمية، والذي كان دافعاً إلى فتح نافذة الاستقدام على مصراعيها لمختلف الموارد البشرية على اختلاف مؤهلاتها لتشارك في عملية البناء والتنمية السريعة التي شهدتها البلاد، سواء في مواردها البشرية أو المادية وما يتصل بذلك من توفير البنى التحية لكافة القطاعات مؤسسياً وإدارياً وبنيوياً.

وتبعاً لتلك الظروف فتحت الجامعات الموجودة أبواب القبول على مصراعيها، لتستقطب كافة خريجي وخريجات الثانوية العامة، إلى جانب ما ساند ذلك من البعثات الخارجية المحفزة للجميع والميسرة، وفي سباق مع الزمن لتوفير أكبر شريحة من خريجي الجامعات وحاملي المؤهلات العليا للمساهمة في مرحلة البناء والتنمية في وطنهم، والمشاركة في تسيير الأعمال وإدارتها في كافة القطاعات الخاصة والحكومية، ومنها قطاع التعليم الذي استقطب الخريجين، وخاصة الإناث لسد الفجوة في الموارد البشرية الوطنية في ذلك الجانب.

وبعد أن تحقق الاكتفاء الذاتي إلى حد ما في معظم قطاعات التعليم خاصة التعليم العام، وكذلك في قطاعات الدولة من الوظائف الحكومية، حتى أصبح الخريجون يشكلون عبئاً إضافياً تتحمل الدولة مسؤولية توظيفهم، وتحول التوظيف لهم إلى بطالة مقنعة في كثير من الإدارات الحكومية، ظهرت الحاجة القصوى إلى أن يتحمل القطاع الخاص (المنتج في المفهوم الاقتصادي) مسؤوليته الاجتماعية في استقطاب الكفاءات الوطنية في مجالاته الوظيفية المختلفة، والتي ما زالت العمالة الوافدة تستحوذ على فرص العمل فيه، وذلك بنسبة (84%)، بينما لا تتعدى مشاركة المواطنين فيه نسبة (16%)، أما القطاع العام الحكومي فنجد أن المواطنين يستأثرون بـ(94%) من فرص العمل فيه، بينما تستحوذ العمالة الوافدة على (6%) فقط من فرص العمل فيه، وذلك بناء على بيانات الهيئة العامة للإحصاء لعام 2015. ومن جهة أخرى نجد أن نسبة بطالة السكان داخل قوة العمل ترتفع عند الذين يحملون مؤهلات جامعية إلى نسبة (55%) من جملة بطالة حاملي المؤهلات الأخرى، بل ترتفع بطالة المواطنين في ذلك المؤهل إلى (96%) من نسبة بطالة الجامعيين، في حين تمثل العمالة الوافدة النسبة المتبقية من بطالة الجامعيين بنسبة (4%)، وذلك في الربع الثالث من عام 2016.

وكنتيجة لهذا الواقع في سوق العمل الوطني الذي تنافس فيه العمالة الوافدة المواطنين في فرص العمل المتاحة في القطاع الخاص لأسباب مختلفة، منها على سبيل المثال لا الحصر، تدني الأجور وعدم الأمان الوظيفي الذي جعله قطاعاً غير مرغوب فيه للمواطنين، فقد ترتب على ذلك ارتفاع البطالة عند المواطنين لقصور في السياسات والإجراءات ذات الصلة بوزارة العمل من جهة، وعدم التأهيل العلمي التطبيقي المناسب للمواطنين للانخراط في سوق العمل الوطني في القطاع الخاص من جهة أخرى، ويتطلب ذلك أهمية التنسيق بين وزارة العمل من جهة ووزارة التعليم من جهة أخرى، لتحقيق أكبر درجة من المواءمة بين مخرجات التعليم والقدرات والمهارات المطلوبة في سوق العمل الوطني وبكفاءة منافسة، ومع غياب ذلك التنسيق وعشوائية السياسة التعليمية والمؤسسية في وزارة التعليم التي تجاهلت أو غابت عنها أهمية النهوض بكليات المجتمع والدبلومات المختلفة والعمل على تطويرها وتنويع تخصصاتها، بما يتوافق مع موارد الدولة المتاحة ومتطلبات سوق العمل، وبما يتيح تنوعا في القاعدة الاقتصادية وما ينجم عنه من توفر فرص عمل، لتحتوي ذلك التدفق الكبير من الفئات الشابة المواطنة نحو ميدان العمل، ولتسهم في عملية التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستهدفة من الدولة، فإن البطالة تزيد عاماً بعد عام حتى سجلت عام 2016 نسبة (12%) بين المواطنين، وبما يؤكد فشل وإخفاق السياسات والإجراءات المتخذة في ذلك الشأن، وعدم الإلمام بأصل المشكلة وحقيقتها وسبل معالجتها وتصحيح المسار.

وبالعودة إلى ما تم استهدافه من توضيح المردود الإيجابي لتخفيض نسبة القبول في الجامعات إلى (50%) فإنه بناء على ما تم توضيحه فإن القبول في الجامعات تم فتحه على مصراعيه لسنوات عديدة دون إخضاعه فعلياً لإجراءات دقيقة علمياً واختبارات تقيس المستوى العلمي للطلاب والطالبات بآلية جيدة لاختيار الصفوة والنخبة لدخول الجامعات، هذا على الرغم من وجود المعادلة الموازنة للقبول والمبنية على اختبارات القدرات والتحصيلي ونتيجة الثانوية العامة في السنوات العشر الأخيرة تقريباً، ومع اختلاف الجامعات في إجراءاتها بنسب متفاوتة ولكنها تشترك جميعها في أنه لا يوجد حد أدنى من النسب العلمية للقبول في الجامعات، بمعنى أنه لا بد أن يحدد على سبيل المثال، أنه لا يتم القبول في الجامعة إطلاقاً لمن تنخفض نسبتهم الموزونة عن (80% أو 85%)، لأن في ذلك تصفية فعلية للنخبة المؤهلة لاستكمال التعليم الجامعي، وذلك يتطلب قبل الشروع فيه التطوير الفعلي لكليات المجتمع علمياً  وتقنياً ومهنياً وحرفياً ومن خلال مسارات مختلفة ومتنوعة تتواءم مع متطلبات سوق العمل والاهتمام بها في الجانب التدريبي والتطبيقي في الميدان بعقد شراكات مع القطاع الخاص لتأهيل مخرجات يستفيد منها في مجالاته المختلفة ودعم ذلك بنظام مؤسسي وقوانين تحميه، وذلك ما يجري في الدول المتقدمة والدول النامية التي حققت منجزات في مسيرتها التنموية بتأهيل مواردها البشرية بكفاءة، لتشكل البنية التحتية لسوق العمل والتي تمثل الشريحة الأكبر من القوى العاملة.

ومما يجب التنويه إليه أن قبول النسب المنخفضة في الجامعات يعني مخرجات ضعيفة وكفاءة محدودة، لشريحة كبرى من الخريجين والخريجات، وهم الذين سيتوجهون بدورهم إلى قطاعات العمل المختلفة، سواء في القطاع التعليمي أو القطاع العام أو الخاص، وسيكونون هم المعلمين والأكاديميين لأبنائنا وبناتنا وجيل المستقبل، كما أنهم هم الإداريون والقيادات الإدارية في القطاعات المختلفة الذين يتحملون عبء إدارة كوادرها البشرية ونظامها المؤسسي، ومن خلال طبيعة تلك المخرجات ومستوى كفاءتها وأهليتها، نستطيع تفسير الكثير من الإخفاقات التي نلمسها في القطاع التعليمي من انخفاض مستوى التعليم في جميع مكوناته ومخرجاته، ومنها أداء المعلمين والمعلمات ودرجة كفاءتهم ومستواهم العلمي الذي انعكس على انخفاض مستوى المعرفة والكفاءة لدى الطلاب والطالبات هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الكثير من الأخطاء الإدارية والقرارات الارتجالية وغير المسؤولة أو المدروسة لكثير من الإجراءات التي نجدها في قطاعات مختلفة ومنها التعليم، يتحمل مسؤوليتها أولئك المقبولون بنسب ضعيفة وما ترتب عليه من مخرجات ضعيفة في مضمونها وتأهيلها وكفاءتها نتيجة لغياب معيار النخبة في التعليم الجامعي، فنكون بذلك نحصد ما زرعناه ونجني ثمار أخطائنا لسنوات مضت.