طالعتنا هذه الجريدة في صفحة ثقافة "الوطن" (عدد الثلاثاء 19 ربيع الآخر) بتغطية جيدة للمحاضرة التي ألقاها في الأسبوع الماضي الأستاذ الشاعر صالح الحسيني في نادي المدينة الأدبي، وعنوانها: غطاء الرأس في التراث والثقافة، وما ثار حولها من نقاش وجدال عن أصالتها العربية، وذهاب بعضهم إلى أنها غير عربية، وأن أصولها هندية، واستهجن إظهارها في المحافل والمهرجانات على أنها تراث حجازي، وطالب بأن يستبدل بها العقال المقصّب...إلخ.
والحقيقة التي لا غبار عليها أن العمامة في الأصل تراث عربي أصيل، وأنها كانت من مفاخر العرب، وكانت مبعثا على الخيلاء والإعجاب عند بعضهم، حتى إن أحد الشعراء حينما رأى ما يظهر على أحد المعمّمين من الخيلاء والتَّبَخْتُر نَبَزَة بقوله:
تَلُوُث عِمَامَةً وتَجُرُّ رُمْحًا
كأنّك من بني عَبْدِ المَدَانِ
ومعروف أن بني عبد المدان كانوا ملوك نجران في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم أصل قبيلة بني الحارث المشهورة، إحدى جمرات العرب، وأخوال أبي العباس السفاح أول خليفة عباسي (ت 136هـ). أما في مكة فكانت العمامة من سمات السيادة والجاه لدى سادة قريش منذ ما قبل الإسلام، وكان لبعض أكابرهم عمائم مصبوغة بالزعفران، فهذا أبو أحَيْحَة سعيد بن العاص بن أمية كان إذا اعتمّ لا يعتمّ أحد بلون عمامته، ومن يفعل ذلك يعرض نفسه للعقاب، وكان يسمى ذا التاج نسبة إلى عمامته تلك التي ظلّت مفخرة لذريته يُمْتَدَحُوْن بها حتى بعد الإسلام من ذلك قول الشاعر فيهم:
فَتَاةٌ أبُوْهَا ذو العِمَامَةِ مِنْهُمُ
ومَرْوَانُ ما أكْفَاؤُهُ بِكَثِيْرٍ
(ابن حبيب، المُحَبّر، طبع بيروت، ص 165). أما بنو عبدالمطلب، وهم من خيار قريش وساداتهم فلهم عمائمهم التي اشتهروا بها، فهذا حكيم العرب أكثم بن صيفي يصفهم حينما رآهم في بطحاء مكة بقولة: "دخلت البطحاء (بطحاء مكة) فإذا أنا ببني عبدالمطلب يخترقونها كأنهم أَبْرِجَة فضّة، وكأن عمائمهم فوق الرجال ألوية يلحفون الأرض بالحَبَرَات" (ابن حبيب، المنمَّق، بيروت 1405، ص 34).
وفي الإسلام اشتهر كثير من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن التابعين بعمائمهم المنسوجة من الخز والقطن والكتان، ومنها ما هي بلون واحد كعامة ابن عباس، وابن الزبير، وعبدالله بن عمر بن الخطاب، وعبدالله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهم أجمعين، ومنها ما هي متعددة الألوان، وكانت لهم طرائقهم في لبس العمائم، فمنهم من يرخيها من الخلف، أو بين كتفيه، ومنهم من يسدلها ذراعا خلفه، وبعضهم يجعل طرفا منها تحت ذقنه (البابطين، الحياة الاجتماعية، الرياض1419، ص 348-349)، أما الأعراب خارج حاضرة مكة فشُبِّهت عمامة الرجل منهم بالرَّحَا، أي أنها كانت تعجر على الرأس عجرا، ربما ليس للزينة كما هو الحال في الحاضرة، وإنما لاتقاء حرارة الشمس.
ثم تطورت العمامة المكية (الحجازية)، واشتهرت في ألوانها وزينتها والمادة الخام المنسوجة منها، وطرائق لبسها حتى غدت علما عليها حتى في خارج حدود جزيرة العرب، فهذا مؤرخ مصر عبدالرحمن الجبرتي قبل ما يقارب من قرنين ونصف القرن من الزمن يصف العمامة المكية التي كان يعتمّ بها المرتضى الزبيدي صاحب تاج العروس بقوله: "ويعتمّ مثل مكة عمامة منحرفة بشاش أبيض، ولها عذبة مرخية على قفاه، ولها حبكة وشراريب حرير طولها قريب من فِتْر، وطرفها الآخر داخل طي العمامة، وبعض أطرافه ظاهر" (تاريخ عجائب الأخبار، بيروت 1978 ،ج 2، 114).
أما كون العمامة المكية أو الغبانة ذات أصل هندي فهذا ما لا أعتقد بدقته، لأنني في حدود ما رأيت من صور الهنود المعمّمين في أفلامهم السينمائية، وفي كتبهم، وتماثيل مشاهيرهم التي رأيتها مجسمة على رؤوسهم في بعض زياراتي للهند، وكذا ما رأيته من شخوصهم في طفولتي حينما كانوا يمرون بقريتي سيرا على أقدامهم في طريقهم إلى الحج، ما رأيت في كل عمائم من ذكرت منهم ما يمتّ إلى العمامة المكية بأدني صلة، فالعمامة الهندية لا تعدو عن كونها لفّة من قماش شبيهة بلفة العمامة السودانية تُدار على رؤوسهم، وتترك لها ذؤابة بارزة في طرفها، ومنهم من أباطرتهم ومهراجاتهم من كان يلبس العمامة على طريقة طائفة السيخ الهنود مع تزيينها من الإمام ببعض الأحجار الكريمة.
أما العقال المقصّب فلا يزال علامة ظاهرة على من يرقصون المجرور بالطائف حتى اليوم، ولو أنه فيما مضى لم يكن شائعا بين عامة الناس، وحتى العقال الأسود المَرْعِز والثوب (القميص) المُزَنَّد (أي غير المشقَّر) الذي نلبسه في عصرنا هذا لم يكونا شائعين شيوعهما اليوم إلا مع انتشار الوظائف الحكومية في هذا العهد الزاهر، ولي عن العقال مقال منشور منذ مدة بعنوان: "ونَفْخَرُ بالعِمَامةِ والعُقَال" وهو مبثوث على الشبكة العنكبوتية لمن يود مطالعته.
والخلاصة أن العمامة أو الغبانة المكية هي – في تقديري - تطور طبيعي للعمامة المكية المعروفة منذ عصور ما قبل الإسلام، وهي عربية الاشتقاق من الفعل غَبَنَ، والغَبْن ثَنْي الشيء (ابن منظور، لسان العرب، مادة غـَبَنَ)، وهي تُلْبَس بثني طرفيّها قبل لفِّها، ولا أرى من الحكمة أننا بمناسبة وبدون مناسبة نجرّد بلادنا من موروثها الحضاري سواء كان خالصا لنا أو مقتبسا من موروث إنساني آخر!