في يناير عام 2015، نظمت وزارة الداخلية الإيرانية مؤتمرا بعنوان "الجهاد مستمر"، أشرف عليه الحرس الثوري الإيراني الذي يعد مؤسسة أمنية وعسكرية في الداخل والخارج، ويتبع المرشد الأعلى بشكل مباشر، ويحظى بتمويل حكومي وخاص، ويمتلك قوات عسكرية برية وبحرية وجوية ودفاعات جوية، وقوات خاصة تتمثل في "فيلق القدس" الذي يعد أبرز أذرعه الخارجية يرأسها منذ عام 1998 العميد قاسم سليماني، وتشرف بشكل مباشر على عدد من الكتائب والألوية، أو ما يصح تسميته بالميليشيات التي تضم مقاتلين في عدد من الدول التي نجحت إيران أن تصل إليها كحزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، فضلا عن ألوية أخرى عرفت بدورها القتالي المتطرف لصالح إيران في جبهات مختلفة، في سورية والعراق، كلواء "أبو الفضل العباس"، ولواء "ذو الفقار"، و"عصائب الحق" ولواء "الإمام حسين" وغيرهم.
تحدث قائد الحرس الثوري الإيراني اللواء محمد علي جعفري في ذلك المؤتمر قبل عامين، عن عزم إيران الاستمرار في سياستها التوسعية في المنطقة، أو ما أسماه بالجهاد المسلح خارج البلاد، وهذا ما يتفق مع السياسة الإيرانية منذ قيام ثورتها قبل أكثر من ثلاثين عاما.
كان ضمن القيادات العسكرية الحاضرة في هذا المؤتمر قائد فيلق القدس قاسم سليماني، ومستشاره العميد إيرج مسجدي رئيس الأركان السابق في الفيلق ذاته، والذي عينته إيران مؤخرا سفيرا لها في العراق.
تعيين إيرج مسجدي يأتي ضمن سياسات إيران في "الجهاد المستمر خارج البلاد"، والذي توسعت فيه بتمكن واضح في العراق، وبتواطؤ واضح من حكومتها التي أصبحت شبه مستعمرة إيرانية، تقود فيها إيران سعار الحرب الطائفية وتستغلها لتقسيم البلاد وتثبيت أقدامها أكثر.
حديث إيرج مسجدي لإحدى الصحف قبل بضعة أيام، جاء يؤكد فيه أن إيران لن تسمح "للتكفيريين" بالوصول إلى المراقد المقدسة في العراق وسورية، وهي حجة كافية لينقاد خلفها أي نظام قائم على التطرف المذهبي، ويسخر جنوده ومقتدراته لأجل مذهبه.
هذا العداء الكبير والقديم الذي تقوم به إيران في المنطقة، يتضاعف ضد المملكة العربية السعودية التي تعتبر حاجز مقاومة لأعمالها التخريبية والإرهابية، والتي ضاقت بها ذرعا قبل عدة سنوات، فقطعت علاقتها الدبلوماسية معها بعد الاعتداء على السفارة السعودية في طهران.
ولا تتوقف إيران من كيل التهم إلى السعودية والقول إنها السبب وراء وجود الإرهاب في المنطقة، في محاولة فاشلة لإذكاء العداء الدولي ضد السعودية التي تعاني من الإرهاب عبر عدة جبهات، ليس أقلها الإرهاب الإيراني، خاصة في مواسم الحج.
ولأن إيران تسعى بإصرار وتخطيط محكم إلى تحقيق أهدافها، فهي اليوم تنفذ ما أسست له قبل سنوات، ووضعت له خطة إستراتيجية مدروسة عرفت بالخطة الإيرانية العشرينية 2025، أو خريطة التشيع الإيرانية 2025، والتي قطعت فيها شوطا واسعا واستغلت جميع الفرص لتحقيقها، سواء عبر القوى العسكرية المنتشرة في الميدان الآن، أو القوى الناعمة التي تؤثر بشكل أكبر في تشكيل الوعي الثقافي والفكر للشعوب العربية وغير العربية، عبر استخدام وسائل الإعلام بمصادرها المتنوعة.
من المعروف أن إيران تملك واحدة من أكبر الإمبراطوريات العملاقة للإعلام في الشرق الأوسط، وأن الإعلام يحظى بدعم حكومي كبير وإشراف مباشر من الجهات المتنفذة، لتحقق خلاله أهدافها التوسعية في المجال الفكري.
في هذه الأثناء، وأنت تقرأ هذا المقال، تقوم إيران بالاستمرار في تصوير فيلم "إمبراطورية جهنم" لمخرجه برويز شيخ طادي، على أجزاء من الأراضي الإيرانية واللبنانية، وبمشاركة عدد كبير من فناني البلدين.
ويهدف الفيلم الذي يتم العمل عليه وسط تكتم إعلامي كبير، إلى الحديث عن أحداث المنطقة ونشأة "داعش" من وجهة نظر إيرانية، تربط بين ظهورها وبين علاقات خفية مع الكيان الصهيوني، ويتحدث أيضا عن التشدد الديني الذي ظهر في الدول الأوروبية والأميركية وبعض التيارات المتشددة في السعودية.
بالطبع، لن يكون هدف إيران من مثل هذا العمل السينمائي تحسين علاقاتها مع المملكة أو حتى الحديث عنها بإنصاف، بل إنها خلاله تعمل على تمرير الصورة المشوهة التي تريد عن السعودية، وتشكيل قاعدة وعي جماهيرية لدى المتلقي الإيراني وغير الإيراني.
وهي لم تقم بمثل هذا الأمر للمرة الأولى، بل سبق أن أنتجت خمسة أفلام سينمائية تتفاوت بين الوثائقية والرسوم المتحركة والعادية في مهرجان طهران للسينما الأخير، تتحدث جميعها عن حادثة تدافع الحجاج في منى، وتصور المملكة مدانة في هذا الحدث.
الأعمال السياسية والعسكرية في زمن العولمة لها طرقها في التعامل مع المستجدات الدولية التي قد تتغير بين لحظة وأخرى، لأن السياسة -كما هو معروف- تقوم على البراغماتية، بينما تؤسس القوى الناعمة التي تقوم على توجيه الفكر والوعي العام عبر الثقافة والإعلام بأذرعها كافة، نقاط ارتكاز تخدم مصالح الدول والرؤى التي تقوم عليها، وتؤثر في الحراك الاقتصادي والشعبي دون ضجيج يذكر.
هذا ما استطاعت إيران استخدامه وتسخيره لأهدافها، بينما ما زلنا "بقوانا الناعمة" نتداول الجدل عن أحقيتها، وننظر إليها من زاوية ضيقة درامية مضحكة لا تختلف عن الدراما التي تضج لها المسلسلات الخليجية في شهر وحيد في السنة!.