تبدو أهمية الذاكرة في عديد المعارف والعلوم الإنسانية التي اتخذتها موضوعاً لها، أو موضوعاً بارزاً من موضوعاتها. وهي العلوم التي تتجه إلى صورة الماضي وخبرته وأحداثه ووقائعه، فيما حفظته عنه ومنه ذاكرة الفرد والمجتمع والأمة والإنسانية قاطبة، كما في حقول التاريخ والأدب واللغة والتحليل النفسي والاجتماعي وما إليها.

وهناك مستوى معرفي عام وتجريدي في دراسة الماضي عبر تلك الأشكال والمجالات، يسعى إلى الكشف عن قوانين وعلل لها صفةٌ كلية، على النحو الذي جعل لدراسة التاريخ عند ابن خلدون في مقدمته غرضاً أعمق من رواية الأحداث، وجعل مقصد الأنثروبولوجيا عند شتراوس الوصول إلى البنيات والقوانين الكلية للوعي الإنساني، ومثلهما أغراض دراسة اللغة والأدب –مثلاً- عند ابن جني والجرجاني وسوسيروتشومسكي.

لكن الذاكرة مشروطة ونسبية دائماً، سواء من وجهة فردية أو اجتماعية أو قومية أو إيديولوجية أو إنسانية، فيما تحفظ من الماضي وعنه، وفيما تتصوره به وعليه. فهي لا تستطيع أن تسجل كل شيء، ولا ترغب في ذلك. إنها ليست آلة معزولة عن الذات التي تحملها؛ ولذلك تختار ما تحفظه وما تهتم به، و–أيضاً- تكيِّف ما تحفظه وتلوِّنه وتؤوِّله وتعيد إنتاجه.

الذاكرة بهذا المعنى، تتبادل التكوين مع "الثقافة" بمفهومها الاجتماعي، ومع "الهوية" هوية الفرد وهوية المجموعة.

فالثقافة كما تستخدم في العلوم الاجتماعية، تشير إلى ما تتمايز به المجتمعات، وما يمنحها روحاً خاصة بها، وتعريفها الإثنولوجي الشهير لدى إدوارد تايلور يصف كليتها الاجتماعية هذه ويرتب الفرد عليها، حين يصفها بأنها "الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والعادات وكل القدرات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع".

هكذا تصبح الثقافة ذاكرة مجموعة بشرية، من زاوية تألُّفهم كمجموعة ذات خصوص؛ فهي محتوى عقلي ونفسي وسلوكي مكتسب لدى أفراد المجموعة في الوعي واللاوعي. وليس للفرد خيار في عدم اكتسابه ثقافة اجتماعية إلا إذا كان له خيار في أن يعيش بلا ذاكرة، أو أن يعيش وحيداً في العالم.

وهذا مقتضى للدلالة على "الهوية" وتكوينها؛ فالهوية لا تكون من دون ذاكرة، كما لا تكون الذاكرة من دون هوية. ولكي يكون الشخص (أو المجتمع) هو هو، أي مطابقاً لذاته، ومتميزاً عن سواه، كما هو مفهوم الهوية، لابد أن ينتسب إلى ما هو أكثر امتداداً منه في الزمن، وأوسع في المكان، وهو الذاكرة التي تغدو كما رأينا محتوى لثقافة اجتماعية. وحين نفقد الهوية فلن نملك إلا العجز، ولن نقوى أبداً على الحضور.

ومادام للذاكرة هذه الأهمية في وجود الفرد والمجتمع، عبر علاقتها بالثقافة والهوية، فلابد أن وظيفتها لا تقتصر على حفظ الماضي وتسجيله أو أجزاء منه، بل تجاوزه إلى وظيفة في الحاضر والمستقبل، وظيفة تجاوز بالماضي مضيه، فتجمعه إلى الحاضر وترى به المستقبل. وهذه وظيفة مهمة لأنها وظيفة الحضور في الزمن والفعل فيه بما لا قياس لنجاعته إلا المستقبل.

لكن الذاكرة لا تتمحّض تلقائياً لفعل الحضور الإيجابي في الزمن؛ فكما تكمن فيها –من وجهة التحليل النفسي- علة العُصاب، تكمن فيها من وجهة المجتمع والثقافة، أسباب العقم الحضاري، وتفاقم العنف، وتكرار المآسي، وانطماس البصيرة، والعمى عن رؤية الحاضر، فضلاً عن فقدان القدرة على التفاؤل بالمستقبل، والشعور بشيء من الأمل نحوه.

لقد تمثلت الذاكرة الإنسانية من بعض الوجهات النظرية مختبراً لادعاء حتميات التحول التاريخي والتقدم، ولتوهُّم البراهين بشأنها. ولو صدقت ادعاءات من هذا القبيل، لكان العلم بقوانين هذه الحتميات امتلاكاً لمجرى التاريخ، ولكان التقدم التاريخي "وصْفَة" تشبه وصْفة الإعداد لطبق من الطعام. والحال أن أصدق قانون يصف التاريخ أنه بلا قانون، وأنه يسير من دون أن يعرف أحد كيف يسير.

كما تمثلت الذاكرة –أيضاً- مجلى للاعتبار والعظة، ومن هذه الوجهة بدا تسجيل الماضي وجهاً من وجوه الرغبة في توجيه الحاضر والمستقبل إلى تجنب الأخطاء، وكان عنوان كتاب التاريخ عند ابن خلدون "العِبَر" وكتاب ابن مسكويه "تجارب الأمم". ولكن أدل عبرة ينطق بها التاريخ هي عَجْز الناس عن الاعتبار، والبرهنة على تحول الضحية –عاجلاً أو آجلاً- إلى جلاد؛ فأصبح الفلسطينيون –فيما يصفهم إدوارد سعيد- "ضحايا الضحايا"، وغدا هذا التكرار للعنف في أمثلته المتواترة لدى تودوروف شبيهاً بتكرار مأساة من يعذب ابنه لأن أباه عذبه صغيراً!

وأظن أن بوسعنا أن نقرأ دور الذاكرة في كثير من المجازر الوحشية في الماضي والحاضر؛ فهي مجازر يستدعيها الانتقام، والانتقام ممارسة للعدوان وإيقاع الضرر بشكل شخصي رداً على عدوان سابق وثأراً له. وإذا كان الانتقام أحد الأدوار السلبية للذاكرة في بسط دائرة العنف، وتمديد سلاسل الفعل ورد الفعل فيه من دون نهاية، فإن خطيئته هي في تحويل العقوبة إلى ممارسة شخصية وليست ممارسة قانونية وشرعية، وهذا وجه افتراقه -كما جلاه تودوروف- عن العدالة التي تعمل في مجال التجريد وتَبْرأ –لكي تكون عدالة- من الشخصنة والذاتية.

لابد –إذًا- أن نتساءل عن علاقة حاضرنا بمحتوى ذاكرتنا العربية الإسلامية، ضمن تساؤلنا عن العلاقة بمحتوى الذاكرة الإنسانية بعامة: ماذا نحترم من خبرة الماضي؟ لماذا نتذكر الجلادين والطغاة أكثر من المبدعين والفنانين والمخترعين والمحسنين والمصلحين؟! وأكثر من الضحايا؟! لماذا نتذكر الحروب والمآسي أكثر من تذكر لحظات السلام والعيش الهنيء؟! لماذا نعجز عن أخذ العبرة ونعجز عن إيقاف تكرار أخطاء الماضي؟! كيف تتسبب الذاكرة في تشويش الرؤية للماضي وللحاضر والمستقبل لا في جلائها؟! هل نستطيع التدخل في تكوين ذاكرتنا وإخصابها وإنارتها؟! هل يمكن التخلص من الشر؟!

اعتقد أن هذه الأسئلة تكشف عن سلطة الذاكرة على الحاضر والمستقبل، وهي إذ تكشف عن الخطورة التي تمثلها في أسرها للرؤية، ومحاصرتها للعقل، وسجنها للزمن، وفي عطفها الحاضر والمستقبل على الماضي، ونسْجهما على منواله، فإنها مادة ثرية لاكتشاف علل الحاضر والمستقبل، تماماً كما هي ذاكرة الشخص ومحتوى وعيه على أريكة التحليل النفسي التي لا يكتفي المحلل المعالج باستخدامها في الكشف عن أسباب علته، بل وفي معالجته منها، وتحريره من قيدها، عن طريق التخلص من ذكريات الماضي عنها، ومكبوتاته المؤثرة عليها.

إن تحليل الذاكرة العربية الإسلامية لا يرينا الماضي فحسب، بل يرينا كذلك المستقبل الذي يمكن لها أن تتخيله، وتجريدَها الذي تتسع به عن محتواها المحدود من الماضي.