في كثير من صباحاتنا القديمة، صباحات الحياة والحب والاستقرار النفسي والاجتماعي والأسري، حيث كنا قريبين من الأرض بكل مافيها من مبهجات ومحفزات على إكمال اليوم بذات النشاط والهمة والقبول الذي بدأ به، كنا هناك بعيدين كل البعد عن القبح والدمار الاجتماعي والقيمي، اللذين يحيطان بنا الآن.
قبح المشاعر وتلونها. قبح الإعلام. قبح القوانين وجورها على الإنسان. وحتى قبح الحب الذي تحول إلى حرب وتملك.
في ذلك الزمن، وتلك الصباحات العتيقة البهية، يتكرر علينا مشهد اعتدناه من أمي، ككثير من المشاهد التلقائية التي ربينا عليها وبها، ومنها نمت فينا روح الإنسانية وحب الحياة. بعد تتبعها طوال المساء حالة "البهيمة" التي توشك على الولادة، توقظنا: تعالوا ترون (امروة) اش جابت.
نركض مسرعين إخوتي وأنا، لنرى بقرتها التي كنا نلاعبها وتألفنا ونألفها، وقد تحولت إلى كائن آخر. تارة تلعق ظهر ابنها الحسيل الصغير الذي جاء إلى الدنيا قبل ساعات، وتارة تحاول الدفاع عنه بتحريك رأسها محاولة نطحنا كنوع من التهديد حتى لا نقترب أكثر.
نسأل أمي: (اش بها) تغيرت لم تعد تحبنا؟ فترد أمي: تحب ولدها وتخاف عليه.
تلكم المشاهد تتكرر في حياتنا باستمرار. البقرة التي نرى أنها لا تعي تدافع عن حسيلها، والشاة عن (عتودها) و(البسة) القطة تحمل صغارها الخمسة من مكان لآخر أكثر أمنا، وبعيدا عن الأذى.
هذه فطرة جبلت عليها كل ذات كبد رطبة. فغريزة الرحمة والشفقة والحنان والحب، خلقت مع الكائنات منذ خلق التناسل، وكل منها تراه يستجمع كامل قواه من أجل صغاره. أمام هذا تلاقفت الأجهزة الذكية مشهدا بشعا وبغيضا أربكني، وحول ليلتي إلى كابوس.
أب يؤذي طفلته الرضيعة بطريقة لم أشهدها من قبل. تجرد من إنسانيته وأبوته ورجولته لسبب أو لآخر. حول قطعة من قلبه وأقرب الناس لذاته إلى مادة تجوب وسائل الإعلام، مستخدما كامل وحشيته.
غياب وعيه عن الإنسانية لا يبرره أي سبب، إلا أن يكون مريضا غير قادر على السيطرة على ذاته، وما عدا هذا فالفرق بينه وبين ما رأيت في بقرة أمي وقطط القرية، يتمثل في منسوب الرحمة الذي سلب منه وأعطي إلى البهائم.
رأينا من الآباء عقابا، وعشنا جزءا منه، لكنه مقنن وبحب، وفي من يستوعب معنى العقاب، وأين الخطأ.
أما طريقة التوحش، فلا تتواءم مع الأبوة، لأنها السياج الروحي والنفسي الذي يفصل بين الطفل وبين منغصات الحياة، ويحول بينه وبين وحشية هذه الحياة، وليس العكس أيها الآباء الأفاضل.