حسب آينشتاين فإن كشف الحقيقة مرة واحدة غير كاف، فالحقيقة تشبه تمثال الرخام المنصوب في صحراء تعصف به رمال لا ترحم، والأيادي النشيطة الدؤوبة التي تنفض عنه الغبار دوما هي التي تحتفظ بلمعانه تحت أشعة الشمس ونور القمر.

والأفكار تشبه الأشجار نموا وذبولا حياة وموتا، وكما تقلم الأغصان ويقطع الشعر فيزداد نموا، كذلك تنمو الأفكار فتصبح شجرة باسقة طلعها هضيم، ويكتب لها الازدهار والقوة من خلال الصقل مرة بعد مرة.

وعليه فيجب دوما تطوير الأفكار وتعهدها أبد الدهر، مثل النباتات وتنميتها بسماد ونور وماء، وإعادة النظر فيها تنقيحا وتصحيحا وتكبيرا وتفخيما حذفا وإضافة، وتمريرها في كل مرة بفلترة العقل النقدي؛ فالعلم ينمو بآليتي الحذف والإضافة وكذلك الأفكار.

نحن نعلم أن الشجرة كائن حي، وكذلك الأفكار فهي كائنات حية، وأهم ميزة على الإطلاق في التمييز بين الحي والميت هي التكاثر، وكذلك الأفكار فهي تنمو وتتكاثر.

والله وصف الكلمة الطيبة بأنها تشبه الشجرة الطيبة تنتج ثمراتها كل حين بإذن ربها، كما وصف الرب الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة.

وهذا يعني أن الكلمة الطيبة تتكاثر وتكبر، فتصبح شجرة تأوي إليها الطيور، وتعطي ثمراتها في كل حين بإذن ربها.

كذلك فإن الكلمة الخبيثة تتكاثر وتصبح شجرة كبيرة تغري وتغوي وتضل وتشقي، بأن الشر والخير صنوان متشابهان في القوة والإثمار، ولكن مصير الشجرتين مختلف؛ فالكلمة الطيبة تدوم، والكلمة الخبيثة تجتث من فوق الأرض ما لها من قرار.

وهذا يفسر ظهور الكثير من الأفكار الشريرة وانتشارها، مثل الأمراض المدمرة والأوبئة القاتلة. هكذا ظهرت الفاشية المجرمة والنازية العنصرية والبعثية العبثية.

وقديما كان ينتشر الطاعون فيحصد نصف أهل المدن ثم ينصرف؛ فلا يعلم أحد من أين جاء ولا كيف ذهب.

وأمراض الأفكار هكذا مثلما حصل مع فكر الخوارج، الذي يحصد من حين لآخر مثل طواعين العصور الوسطى.

والأمراض تنتشر بوحدات خاصة. وكذلك الأمراض الاجتماعية.

و(الوحدات الإمراضية) في الجسم هي الجراثيم والفيروسات، والوحدات الإمراضية في الأمراض الاجتماعية هي (الأفكار).

ومثلا فمرض الكوليرا خلفه ضمات الهيضة، ومرض السل عصيات السل. والأيدز الفيروسات العكوسة القلوبة، ومرض العنف خلفه جراثيم (الكراهية والتعصب).

وكما كان لأمراض البدن تظاهرات من أعراض وعلامات وسير ووحدات إمراضية ووسائل تشخيصية وعلاج، كذلك الحال في الأمراض الاجتماعية، ولكن بكل أسف لم يتطور (الطب الاجتماعي) بقدر تطور الطب العضوي البدني.

والكائن الحي يتصف بالتكاثر، والصخرة جماد لا يتكاثر. والفيروس هو حلقة الوصل وجسر العبور بين الحياة والموت؛ فهو يتبلور مثل الملح، وهو يتكاثر مثل الخلايا، ولكن حتى يتكاثر لا بد له من خلية يتسرب إليها، وهذا هو وجه الخطر في انتشار الفيروس، أي اعتماده على الخلايا الحية التي تعيد إنتاجه.

وأخطر الفيروسات هي العكوسة القلوبة ما يعرف بالرتيروفيروس، مثل فيروس الإيدز، فهذا الفيروس يتسلل إلى الكود الوراثي في نواة الخلية؛ فيصبح قطعة منها، وتعيد الخلية إنتاجه وكأنها تعيد إنتاج نفسها، وهي تنتج في الواقع وسائل دمارها وسلاح خرابها، كما هو الحال في الأنظمة الشمولية التي يتسرب إلى أجهزة الأمن فيها شرار الخلق؛ فيدمرونها ولو بعد حين، ويحكم الانقلابيون العسكريون الصبيان أمما عظيمة.

وكما كان تقليم الشجر مفيدا فيدفع الحياة في اتجاه جديد، كذلك الحال في تقليم الأفكار، وأفكارنا تكبر مثل أولادنا، والفكرة الجيدة تنمو مثل الكائن الحي دوما بالتقليم والتشذيب.

وأنا أعكف منذ عشرات السنوات على بعض الأفكار؛ فأعيد صقلها كل مرة لأجدها زادت تألقا وبهاء ونموا.

ومنها فكرة اللا عنف حيث أكتشف كل يوم أنها ليست مجرد أفكار، بل عالم قائم بذاته، وجغرافيا مختلفة، وكوكب ينزل الفكر على سطحه بإحداثيات كونية مختلفة، مثل الضغط والحرارة وتوزع الغازات.

والفكرة الجيدة يجب أن يعنى بها الإنسان من وقت لآخر فيعيد اختبارها وترتيبها وترابطها مع نظام الفكر.

والكتاب الجيد يجب أن نعيد قراءته مرات ومرات. وهذه الرحلة لانهاية لها لأنها حياة تدوم وتكبر. وسبحان الحي الذي لا يموت فتوكل عليه.