قال أحمد بن فارس في كتابه الفذّ مقاييس اللغة "جَدَلَ: الجيم والدال واللام أصل واحد، وهو من باب استحكام الشيء في استرسال يكون فيه، وامتداد الخصومة ومراجعة الكلام"، وقال في القاموس المحيط "جدله يجدُله ويجدِلُه أحكم فتله [...] والجديل الزمام المجدول من أدم، وحبلٌ من أدم أو شعر في عنق البعير"، فهذا أصل معنى "الجدل"، إنه إحكام الفتل، ولفظة جادل يجادل، التي تدلّ على الاشتراك في "الجدَل" مأخوذة من هذا المعنى، فكأن المتجادلين يقومان بإحكام الحبل المجدول، يتعاونان على إحكامِ فتلِه. ومن هنا لا بد أن يكون هذا "الجدل" بالتي هي أحسن ليتمّ إحكام الفتل هذا، فيظهر الحقّ، ويشعشع نورُه. وإذا لم يكن الجدل بالتي هي أحسن، فلن يكون هناك "حبل مجدول"، بل حبل مشعّث مهترئ لا فائدة فيه، أي إنه سيكون عملًا بلا فائدة، لن يحقق المطلوب منه، بل سيكون عبثًا من العبث.
لا أقول إن الجدل غير مفيد، فهو إثراء للفكر، وحثٌّ على إعمال العقل، واستفزازٌ للقدرات الذهنيّة، وسعي للوصول إلى الحقيقة، بشرط أن يتوافر فيه شرطان؛ العلم والعدل، فمن جادل وهو يعلم فيما يجادل، اجتهد، واستفرغ وسعه لبيان المسائل وتحريرها، ومن جادل متحليًا بقيمة الإنصاف والعدل، فلا يأخذ خصمه باللوازم التي لا يلتزمها، ولا يقوله ما لا يقول، ولا يهوّش عليه بالتهم الكاذبة، والافتراء الوقح؛ فهو أحرى أن يخدم العلم والمعرفة، وأقرب إلى أن يصل إلى الحقيقة إن كان يسعى لها، لا لمجده الشخصيّ، ولا ليقال: هو مجادل بارع، ذكيّ، جادل فلانًا فقطعه، وألقم خصمه حجرًا!
والناظر في تراثنا الكلاميّ يجده مليئًا بمثل هذه الأخبار، فيقال مثلًا: اجتمع فلان (المعتزلي مثلًا) وفلان (الأشعري مثلًا)، فقال فلان كذا، وقال علّان كذا، فردّ عليه فلان بكذا وكذا؛ فكأنما ألقمه حجرًا (يا للهول)، أو فأجابه بكذا وكذا، فانقطع (يا خفيّ الألطاف نجنا مما نخاف).
ولا يزال فئام من الناس، من المشتغلين بعلم الكلام والعقائد، أو بالفقه، أو بالسياسة، يسيرون على هذا النحو. وأزعم أن أكثر جدالاتنا – وليس هذا بخفيّ على الناظر في وسائل التواصل الاجتماعي كالفيسبوك وتويتر، أو بعض برامج التلفاز كالاتجاه المعاكس وما أشبهه – ليس فيها شرطَا الجدال من العلم والإنصاف، بل إنك تجد غير قليل من العدوان والافتراء واستعراض القدرات الكلاميّة، واستعمال المغالطات، بل تتعدّى الحوارات هذا إلى الشتم والسب، بل القذف، بل التكفير والتضليل المجانيَّين، لا لشيء إلا لنصرة الحزب، والفرقة، والطائفة، والنظام، ثم يخرج المتجادلان وقد امتلأ كل منهما غيظًا من الآخر، وسط تصفيق "المتفرّجين" وهتافاتهم وتعليقاتهم، فعلَ جماهير كرة القدم الأميركية التي يمارسها "لاعبون" مفتولو العضلات، يتناطحون بالرؤوس والأكتاف. وربما أكثرهم لا يعي من قوانين هذه اللعبة شيئًا، ولا يتقنها، ولا يدري تفاصيلها.
امتلأت مكتبتنا العربية والإسلامية بكتب الردود، ويلفت الانتباهَ الاستعاراتُ التي تستعمل عناوين لهذه الكتب، فمن ذلك مثلًا كتاب "الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطلة" لابن القيم يرحمه الله، فهو لا يردّ عليهم في هذا الكتاب، ولكنّه يرسل عليهم الصواعق التي تحرق وتدمّر (اللهم رحماك). ومن ذلك أيضًا كتاب "تبيين كذب المفتري فيما نُسب إلى الإمام الأشعري" للحافظ أبي القاسم بن عساكر، فكأن الإمام ابن عساكر رحمه الله يفترض مسبقًا أن خصوم الإمام الأشعري من الحنابلة وغيرهم ما هم إلا مفترون كاذبون لا مخطئون مثلًا أو واهمون. ثم بعد ذلك يأتي أحد الحنابلة وهو يوسف بن الحسن بن عبدالهادي الحنبلي الشهير بابن المبرِد فيؤلف كتابًا بعنوان "جميع الجيوش والدساكر على ابن عساكر، حيث بال و ....، وتعصّب للأشعري، وردّ على الحديث النبوي، وزعم أنه كذاب مفترٍ"، فإذا قارئ هذا العنوان يتخيّل ابن عساكر رحمه الله فريدًا في زاوية، ثم يجتمع عليه الجيوش والدساكر (أي القطعة من الجيش) لحربِه والنيل منه، ومن ذلك أيضًا كتاب محمد بن أحمد بن عبدالهادي الحنبلي بعنوان "الصارم المنكي في الرد على السبكي"، فما كتابُه إلا سيف مسلول، وصارمٌ لا ينبو، فكأنه داخل في معركة للقتال، لا في جدل علميّ، وحجج معرفيّة.
للعلماء الذين ذكرتُهم الشكر، فقد قدّموا ما يفيد، وكانوا بحق علماء كبارًا، ذوي علم غزير، ومعرفة جمّة، غير أنهم بشر يخطئون ويصيبون، وهم سادة من سادات المسلمين، فمن ذا ينكر فضلهم؟ ومن ذا يجحد علمَهم؟ وقد ترجم لهم المترجمون فما ذكروا إلا تقى وصلاحًا وخيرًا، فجزاهم الله عنا خيرًا، وجمعنا بهم في مستقر رحمته.
غير أن القرآن الكريم إنما يذكر الجدال بالتي هي أحسن، فإذا كان هناك طريقتان في الجدال حسنةٌ وأحسن، فالواجب اتباع الطريقة التي هي أحسن، فضلًا عن الحسنة، فضلًا عن الطريقة القبيحة، فضلًا عمّا هو أقبح.
وإني أكتب هذا الكلام، ولا أبرّئ نفسي من الوقوع في مثل هذا في ردود سابقة، في بعض ما كتبت، غير أني أرجو الله تعالى أن يسامحني، وأستغفر الله تعالى، وأعزم على ألا يكون جدالي فيما يستقبل من العمر إن فسح الله فيه إلا بالتي هي أحسن، وإنه لجهاد للنفس أي جهاد.
وبعد؛ فما كل شيء يستحق الردّ، وإنه لتضييع للعمر أن يكون ردٌّ على ما لا يوجب الردّ.