هل أنت خائف من المستقبل؟ أم مطمئن إليه؟

هذان سؤالان يقسمان المستقبل إلى لونين متضادين، ويعلقانه على اختيارك بينهما: شؤم المستقبل أو فأله، نكَده أو بشارته، ضيقه أو اتساعه، الوعيد به أو وعده.

وهي قسمة "عاطفية" حادة بين متعارضين، وعاطفيتها هذه دلالة على علاقة ذاتية بالمستقبل؛ فليس المستقبل مقطوع الصلة بمن يشعر نحوه بالأمل أو باليأس، وليس بمقدور الإنسان أن يتجرد من تلك الذاتية نحو المستقبل، إلا إذا تجرد من قيمته الوجودية، وهي حسه الذاتي بالمسؤولية على نحو تصبح مسؤوليته عن ذاته وجهاً آخر لمسؤوليته عن مجتمعه وعن الإنسانية.

هذه القيمة الوجودية، إذا ما استشعرها الإنسان، هي ما يدفعه للعمل والاكتساب والحرية والحلم والتذكر والتفكير والتعاطف... أي ما يجعله حركة تُلقِي بنفسها إلى الأمام، وتترامى إلى الغد، وتستشرف المستقبل؛ فكل إنسان بلا مستقبل هو بلا وجود، والعكس صحيح بالقدر نفسه.

غير أن هذا التصور برُمَّته ينعكس على مفهوم الإنسان؛ فالإنسان ليس فكراً مجرداً، أي ليس نشاطاً إبستمولوجياً معزولاً لتوليد الأفكار، وهو كذلك ليس حساً خالصاً. ولذلك لا ينظر الإنسان –مجتمعات وأفراداً- إلى الأشياء نظرة واحدة، بل نظرة ممزوجة بذاته، نظرة محسوبة بعلاقته الذاتية بها، علاقة روحه ووجدانه وأناه وتكوينه الثقافي الاجتماعي.

وفي هذه الهوية الإنسانية الجامعة، لا يمكن تصور الإنسان في فردية مطلقة، ولا في حضور مكتف بذاته. إنه لا يدرك ذاته كفرد إلا في قبالة آخر مماثل له، وفي وسط مجموع. كما لا يدرك حضوره إلا بمقدار إدراكه لما يحتاجه وما يغيب عنه وما يسعى إليه.

الذات التي لا يمكنها أن ترى غيرها إلّا معزولاً عنها، لا يمكنها –أيضاً- أن تمحو غيريته وآخريته، والذات التي لا يمكنها أن ترى الموضوعات معزولة عنها، لا يمكنها –كذلك- أن تمحو موضوعيتها تماماً... ولذلك يضيف الآخر إلى الذات حين تراه وتلتقي به، ويضيف الموضوع إلى الذات حين تعرفه.

ويَفْترض حساب العلاقة بالمستقبل المنطق نفسه؛ فنحن لا يمكننا أن نرى المستقبل معزولاً عنا، ولا يمكننا –أيضاً- أن نمحو مستقبليته. ولذلك يختلف المستقبل عن الحاضر ويتصل به لكي يغدو مستقبلاً له.

هكذا يغدو السؤال عن "الخوف" من المستقبل أو "الاطمئنان" إليه في مطلع هذا المقال، سؤالاً عن وجود "الذات" المسؤولة، وعن وجود "الموضوع" المسؤول عنه وهو المستقبَل؛ لأنه سؤال عن العاطفة تجاهه، والإنسان يوجد بقدر ما يتعاطف، ويتعاطف بقدر ما يوجد.

والتعبير بفعل "التعاطف" –وهو دلالة على التفاعل- أدل على فعل الوجود؛ فالعاطفة المحسومة تجاه المستقبل، أي القاطعة بأمل أو يأس ونحوهما، ليست تعاطفاً، ومن ثم فهي أدعى إلى الفتور والتضاؤل والامحاء.

إن اليقين الذي نعتقده تجاه المستقبل، سلباً أو إيجاباً، محبط للأهمية التي يمثلها تجاه الحاضر؛ فاليقين الذي يفضي إلى الاطمئنان إلى المستقبل والقناعة به مثل اليقين الذي يفضي إلى اليأس منه، في كبح الترقب له والتطلع إليه وتوهين الاجتهاد في بلوغه والتحوط له واستفراغ الوسع في الاستعداد له.

ولو كنا نعلم ما يدخره المستقبل لنا لتعطلت الحياة؛ فالمستقبل كما هو حال الحاضر والماضي، لا يستقل أي منها جوهراً بذاته، بل هو علاقة، وفي هذه العلاقة تكمن قيمته كما يكمن مفهومه.

العلاقة بين الزمن –ماضيه وحاضره ومستقبله- وبين الذات، في أشكال ممارستها لذاتها، وتحقيقها لوجودها، هو ما يصنع أقداراً متباينة للزمن، وحسابات مختلفة بشأنه.

لذلك نقول في التقريع والتوبيخ واللوم للمهمل أو الكسول "أنت ما تحسب حساب الزمن"! أو "أنت لا تبالي بالمستقبل"! أو "أنت تضيع وقتك"!. وهي عبارات تصنع نمطاً في التصور للزمن عبر صُوَر "الثروة" التي تدَّخر وتستثمر أو تبدَّد، و"الاستهلاك" الذي يصف فعلاً سلبياً في مقابل "الإنتاج". أعني أنها عبارات تثمِّن الزمن وتغلي قيمته.

وهي بوصفها نمطاً في التصور للزمن دلالة ثقافية؛ فكما يختلف الأفراد من هذه الوجهة الثقافية في حساب الزمن وتثمين قيمته، تختلف المجتمعات. ولذلك يدخل الزمن لدى عديد الفلاسفة والمنظرين –ومالك بن نبي أبرز أمثلتهم عربياً- عنصراً من العناصر التي تتكون منها الحضارة.

الزمن –من هذه الوجهة- يمتلك القيمة في المجتمع بقدر اتصاف المجتمع بالتقدم. المجتمعات المتخلفة مجتمعات لا تقدِّر الزمن، وهي بالأحرى بلا زمن؛ لأن الدوران والتكرار والمراوحة في المكان نفسه ممارسة في إلغاء المستقبل، ونفي الزمن.

يمكن أن ندلل على هذا الاختلاف الثقافي في تثمين الزمن وتصوره بالإطلال مع الياباني نوتوهارا في "العرب وجهة نظر يابانية" (2003) كتابه الذي دوَّن فيه مشاهداته وانطباعاته وآراءه في بعض المجتمعات العربية، وهو أكاديمي ومثقف حذق العربية، وعاش في مجتمعات عربية عدة، وظل يتردد إليها طوال 40 عاما.

فمن الواضح إلحاح عنصر الزمن على ملاحظاته من زاوية المفارقة بين شعوره به وشعور المجتمع العربي. ونكتفي هنا بمشهدين يدللان على غياب المستقبل في الحساب للزمن عربياً، من وجهة الياباني:

أولهما: في حديثه عن غياب الرعاية للمواهب في قطاع التعليم، والغش والتلاعب في التدريس والامتحان واختيار الأساتذة وكل ما يتعلق بالعملية التربوية. يقول "إن الأمر يعتمد على المعلم والتلميذ بالدرجة الأولى، وليس على الغنى أو الفقر. أُقدِّر أن السبب هو غياب الشعور بالمسؤولية العامة. غياب الشعور النابع من وجدان الفرد بأنه مسؤول عن مستقبل كل الوطن".

والآخر في الشعور بتكرار الحياة ورتابتها دون أي تغيير؛ فهو يشعر بالقلق لأنه يقضي وقتاً طويلاً دون عمل شيء، وهذا وعي مختلف لديه للزمن، قياساً على من جلس معهم من العرب، ولذلك قال "عرفت معاناة الضجر والملل، وعرفت مرارة مرور الوقت الفارغ إلا من الجلوس والانتظار". والمفارقة التي يشير إليها في هذا الصدد، أنه لم يجد ضجراً أو قلقاً لدى العرب من الجلوس والانتظار لساعات طويلة.

ومن الواضح أن وصف الياباني للزمن في المجتمع العربي وافتقاده للمستقبل، جاء محمَّلاً بذاته، بشعوره بالقلق والضجر وبالمجانية وانعدام المسؤولية. وهذه الذات التي لا يدرَك الزمن إلا بها، مثلما لا يتحقق الوجود إلا بها، ذات تنمّ –لديه- عن نمط ثقافي مختلف، مكَّنها من الإحساس بالزمن، الإحساس بفقدانه وضياعه.

أما العلة التي تمنع من تفكير العرب بالمستقبل، من وجهة الياباني، فهي "القمع". إن القمع –فيما يقول في خاتمة كتابه- "مرض عضال ومشكلة أساسية في المجتمع العربي". وإذا شئنا أن نكشف عن سر العلاقة بين القمع وتهافت قيمة الزمن في أي مجتمع، فإنها في ما يَنْتُج عن القمع من تفريغ الإنسان من المسؤولية، والإنسان من غير مسؤولية يعني أنه بلا وجود فعلي.