سأعلق على ورقة الصديق سليمان السلطان المعنونة "الأنا والآخر في فلسفة العزلة"، والتي قدمها ضمن نشاطات حلقة الرياض الفلسفية. سأحاول التركيز على التفكير في هذه القضية: هل يمكن استضافة الآخر في العزلة؟ الضيافة هنا تعني شكلا من أشكال العلاقة مع الآخر: تحديدا الوجود من أجل الآخر.

ورقة السلطان أكدت بشكل متكرر على أن العزلة ليست انفصالا عن الآخر، بقدر ما هي عودة له. أتفق تماما مع هذه الأطروحة، ومداخلتي هنا ستكون للتفكير معكم في طبيعة هذه العودة، وفي شكل العلاقة التي تجمع المعتزل مع الآخر. بمعنى أننا وإن اتفقنا على أن العزلة ليست انفصالا عن الآخر فإننا قد نختلف في طبيعة هذه العلاقة التي تتيحها العزلة للذات مع الآخر. هل تضع العزلة حدودا لعلاقة الذات مع الآخر أما أنها تفتحها على كل الاحتمالات؟ أطروحتي هنا أن العزلة على الأقل في ورقة الأستاذ السلطان تقف بعلاقة الذات والآخر في حدود العلاقة المعرفية/علاقة الوعي وتحجب الذات عن الاتصال بالآخر أخلاقيا. في البداية لا بد من توضيح ماذا أعني تحديدا بالفضاء المعرفي والفضاء الأخلاقي. الفضاء المعرفي يعني أن تبقى علاقة الذات والآخر في حدود ما يستطيع كل طرف "معرفته" عن الآخر. العلاقة هنا علاقة وعي. الذات هي الذات العارفة والآخر هو موضوع هذه المعرفة. الآخر يحضر كجزء من معرفة الذات وبالتالي جزءا من الذات. في المقابل العلاقة الأخلاقية تجمع الذات بالآخر في مستويات سابقة على المستوى المعرفي، بمعنى أنها لقاء بين الذات والآخر في فضاء سابق لما تعرفه الذات عن الآخر وتجربة الوعي بينهما. الضيافة شكل من أشكال هذه العلاقة، باعتبارها وجودا من أجل الآخر الذي يوجد خارج وعيي ومعرفتي: كآخر غريب.

الآن سأعود إلى ورقة الصديق السلطان لجعل أطروحتي أعلاه مبررة. يقسّم السلطان مقامات العزلة إلي ثلاثة مقامات: المعرفي، الأخلاقي، والمقام الوجودي. في المقام المعرفي ينص السلطان على أنه مقام "تأمل الآخر من حيث كونه تجربة لوعي الذات"، العزلة هنا مطلب مهم لاكتساب المعرفة بالآخر. هنا نلاحظ حدود حضور الآخر في "وعي الذات"، الآخر هنا جزء من التجربة الخاصة للأنا. في المقام الثاني، المقام الأخلاقي ينص السلطان على أن العزلة تضيء الآخر، ويذكر أن أول خطوة لمعاملة الآخر بعدل هي "فهمه". العزلة هنا تساعد على "فهم الآخر". العزلة هنا هي تحرر للإنسان من قيوده، وهذا يعني "أن تخضع الأنا لذاتها في قيودها". المسؤولية الأخلاقية هنا هي "مسؤولية الذات أمام نفسها وكذلك أمام الآخر". هذا المستوى من المسؤولية يبقى في حدود الذات ومدى أثرها على الآخر في المقابل فإن المسؤولية "عن الآخر" تعني أن تمتد المسؤولية لما ليس للذات علاقة مباشرة به، كأن تساعد متسولا تعلم يقينا أنك لست مسؤولا بالحسابات الذاتية عن حاجته. ما يربطك بالمتسول هنا هو مستوى من العلاقة أسبق على حسابات العدل والظلم. المقام الثالث حسب تقسيم السلطان هو المقام الوجودي الذي يؤكد فيه السلطان على بديهية وأولية الذات. في هذا المقام يذكر السلطان أن العزلة هي "عودة مستمرة إلى الأنا من حيث تأملها الداخلي وتأملها بالآخر". نلاحظ هنا أن الآخر يحضر كموضوع لتأمل الذات. الذي يبدو لي أن الآخر في الآفاق الثلاثة لا يتعلق بالذات إلا كموضوع لها ولوعيها. هنا تبدو العزلة عزلة عن الآخر كآخر، عزلة عن العلاقة معه خارج فضاء الذات، العزلة هنا ذاتية بمعنى أنها رد الآخر للذات.

وفي قسم مخصص للآخر في العزلة يحضر الآخر في حدود دوره كشرط لمهمة فهم الذات. يؤكد السلطان على أن الأنا "لا تفهم إلا بالآخر"، كما يؤكد "ولا يمكن من ثم فهمها [يعني الذات] كما هي إلا أن حضر الآخر بها ومعها، وذلك من خلال إدراكها له، ومن هنا نفهم حضور الآخر في تجربة العزلة حضورا كثيفا". وفي عبارة جلية يؤكد السلطان على أن "الآخر كمعطى في تجربة وعي العزلة هو معطى لا ينفك عن الوعي". بالنسبة للمعتزل "الآخر لا يزال جزءا من خبرته ووعيه، بل هويته ذاتها". ويؤكد كذلك على أنه في العزلة يكون الآخر هو موضوع تأملنا بالوعي"

في السياق السابق لا تبدو لي إمكانية استضافة الآخر أو أي علاقة للذات بالآخر خارج تجربة الوعي. في آخر الورقة انتقد السلطان الحداثة باعتبارها سبب لاغتراب الإنسان بسبب العلاقة الاستعمالية مع الوجود. لكن يبدو لي أن العلاقة بين الأنا والآخر كما في الورقة لم تخرج من أفق الحداثة، باعتبار أن هذه العلاقة لم تتجاوز عملية رد الآخر للذات كجزء من وعيها وتجربتها. لم ننعتق هنا من سيطرة الذات على العالم بما فيه الآخر. هذه الحالة لا تفارق حالة السيادة على الطبيعة ولكنها على الآخر هنا، التجربة هي تجربة الذات والآخر لا يحضر إلا بوصفه موضوعا أو جزءا من هذه التجربة. أريد التأكيد هنا أن الآخر في وعي الذات لا يبقى آخر، بل يصبح جزءا من الذات. هو لا يدخل في الوعي الذاتي إلا بقدر ما يتوافق مع هذا الوعي. الآخر كضيف يتم الترحيب به بدون أن يكون جزءا من معرفتنا أو وعينا. الضيافة هي حفاظ على وجود الآخر خارج حدود الذات.

قد تكون مداخلتي حملت ورقة السلطان ما لم تحتمل باعتبارها انطلقت من سؤال مختلف بخصوص إمكان ضيافة الآخر في العزلة ولكنه كان مهما بالنسبة لي أن أفكر إلى أي مدى تحجب العزلة الذاتَ عن الآخر. يبدو أن الانفصال الجسدي عن الآخر في العزلة يحمل معه أبعادا أعمق في حجب إمكان العلاقة معه خارج تجربة الوعي.