مرَّت سنوات طوال على حقبة من العمر كنت فيها إلى التاريخ والمؤرِّخين أقرب. ربَّما فرضت طبيعة العمل آنذاك بعض ذلك، إلاَّ أني كنت أحمل شيئاً من هوى لذلك المجال المؤنس المؤلم. وما زلت أذكر أنَّ أول من رأيت في الرياض غير من شرفت بلقائهم في المدينة المنورة، المؤرِّخان الأديبان الشيخ سعد بن رويشد والشيخ عبد الله بن خميس رحمهما الله. كان اللقاء الأول بهما معاً، للاستعانة بعمرهما وعلمهما في التعريف بأسماء بعض بوَّابات مدينة الرياض القديمة على صورٍ تاريخية. ثم تعدَّدت اللقاءات بهما كلٌّ على انفراد، الشيخ عبد الله بن خميس لما يتعلق بمعلومات عن الدرعية القديمة خاصة، والشيخ سعد بن رويشد لما له علاقة بالرياض القديمة، وخاصة منطقة قصر الحكم. وما زلت أذكر بالغ لطفهما في التعامل مع ذلك المعماري الشاب وأدبهما في تعريفه بما أراد. وزاد الشيخ سعد بن رويشد حين علم عن تطفُّلٍ لي على الشعر، إلى أن يجعل في كلِّ لقاءٍ حديثاً عن الشاعر الشهير محمد بن عثيمين، وأهداني نسخة من تحقيقه لديوانه الذي كان فخوراً به.

عرفت فيما بعد جيلاً آخر من المؤرخين كان من أبرزهم الدكتور عبد الله العثيمين رحمه الله، الذي قسا عليَّ بملاحظاتٍ على بحث أعددته عن تاريخ العمران في مدينة الرياض. وأحسب أن بعض قسوته كان لتعليقي ضمن البحث على نقطة لم ترقه في كتابه عن تاريخ المملكة. وسعدت فيما بعد بمعرفته أكثر والقرب منه بود. ثم عرفت الدكتور عبد الله العسكر رحمه الله، الذي كان الأقرب بما كان يفيضه، بالإضافة إلى علمه من لطفٍ وإنسانيَّة وتواضع.

لا أعرف كيف انتهت العلاقة العمليَّة بالشيخين سعد بن رويشد وعبد الله بن خميس ليصبح المرجع فيما يتعلَّق بالرياض شخصيةً تفرض عذوبتها عدم تذكُّر أوَّل لقاء وسببه. تعدَّدت اللقاءات وكان أكثرها في مقر العمل حين كان يشارك في انتقاد معلومةٍ أو تحقيقها، أو الاطلاع على صورة قديمة كان يظهر على وجهه مدى السعادة حين تكون مما لم ير من قبل. كانت الاتصالات في ذلك الزَّمن أقل تعقيدا، وكان يحرص على المرور برأيه المكتوب بخطِّه الأنيق. وأحيانا كان يمرُّ بتواضع لمجرَّد السلام حين يكون عابرا بالمؤسسة لمهمة لا علاقة لي بها. وكانت تلك المرَّات أكثر بهجة إذ يخرج فيها الحديث عن نقطة محدَّدة إلى مجالات واسعة ممَّا كان يعرف، وما أكثر ما كان يعرف، من تاريخ المملكة عموما والرياض خصوصا والأسرة المالكة بالأخص حتى أصبح الشيخ عبدالرحمن الرويشد مؤرِّخ سيرتها والعالم أكثر من غيره بها، بالإضافة إلى معلوماته عن العديد من الأسر الشهيرة في منطقة الرياض. ولعلَّه مما لا يدركه البعض أن خلفيَّة الشيخ الدراسيَّة وموهبته مكَّنتاه من قدرة على أسلوب كتابيّ رائع رائق، وعلى قدرة شعريَّة كان نفسه يعدُّها متواضعة رغم جمالها التقليدي.

أصبحتُ في مرحلة عمل مختلفة، وصرت أقصد الشيخ للسؤال عنه واستشارته. وكانت معظم الزيارات دون مواعيد، كما شرَّفني بالسَّماح بذلك. ولا أذكر أني دخلت عليه مرَّةً إلا وهو يمسك محقِّقاً في وثيقة أو مدقِّقاً في صورة أو قارئاً لكتاب أو جريدة. وحين يتنبَّه إلى ذلك القادم يرسل تلك الابتسامة التي هي مقدّمة لكثير من ترحاب كان يجيده دون افتعال. وكان يُسرُّ بما يقدِّمه من علمه ومعلوماته، وإن كان يحرص على ما لديه من وثائق حرصاً يعكس مدى الجهد الذي بذله في السَّبق إلى الحصول عليها. ولا أذكر رغم ما أثقلْنا به عليه من تساؤلاتٍ وما أفادنا به من معلومات أنَّه طلب مقابلا يستحقُّه دون فضل. على أنَّه كان شديد الحرص على أن تُحفظ حقوقه الأدبيَّة، ويدافع باعتداد حين محاولة المساس بها.

كان -رغم ما يعتقده البعض من تقليديَّة أسلوبه- عصريَّ الرأي في أحيان كثيرة. ولعلَّ من ذلك رأيه في قبول مصطلح الوهابيَّة وعدم اعتباره مذمَّة، وهو ما نشره في كتيِّبه "الوهابية: حركة الفكر والدولة الإسلامية". وقد تعدَّدت مجالات كتاباته واهتماماته في إطار التاريخ الأشمل وإن كانت البداية في مجال الصحافة، فكتب عن مراحل وأحداث، وكتب عن أماكن مثل قصر المربع وقصر الحكم، وعن شخصيات مثل الشيخ عبد الله السليمان الحمدان. ووضع شجرة الأسرة المالكة في كتاب يكاد يكون المرجع الوحيد في ذلك المجال، وابتدأ خطوات لتحويله إلى شكل رقمي وإنشاء موقع له على الإنترنت. كما كان محقِّقا دقيقا للمخطوطات التاريخية ومستدركا عارفا بذاكرته للصور التاريخيَّة.

كما أدرك أهمية الحاجة إلى العناية بالطفل فأصدر مجلة الشبل التي ظلَّت لسنين معتمدة على جهده الشخصي المباشر. وأحسب أن على من خلفه واجب كبير في العناية بما لديه من وثائق وصور، وما قد يكون من مسودَّات كتب ومقالات، بالإضافة إلى جمع ما كَتب من مقالات في كتاب أو كتب. ولعلَّ بعض الجهات المعنيَّة بالتاريخ والثقافة أيضا تبادر إلى توثيق جهده وتاريخه كما وثَّق كثيراً من تاريخ هذه البلاد، وربَّما مبادرات من آخرين تكمل البادرة الجميلة للأمير عبد العزيز بن عيَّاف بالتكفُّل بإعادة إصدار ما سبق من كُتب الشيخ عن مدينة الرياض.

أجاب الشيخ عبد الرحمن الرويشد داعي الله ورحل إلى رحاب رضوانه. وأحسب أن الشيخ أصبح مرجعاً أساساً لكلِّ ما يتعلق بتاريخ المملكة والرياض، وهو تشريف كان يمدُّه به خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز حفظه الله على الدوام. وتوثَّقت تلك الصِّلة بين الشيخ والتاريخ إلى أنَّه يكاد يكون الفاصل في دقَّة المعلومة أو صدقها: "شافها الرويشد"!