تعلمنا في حلقات العلم ودروس العقائد التي كنا نحضرها أيام الصبا بغض أحمد بن أبي دؤاد الجهميّ أو المعتزليّ (بين اللفظين فرق أوضحه في آخر المقالة). ذاك أنه (أغرى) الواثق في الاشتداد في محنة خلق القرآن، أما أنا فأشربت بغضَه لهذا، ورُسِمت في ذهني له صورةٌ شيطانيّة، فلم أكن أتخيّله إلا جبارًا من الجبابرة، بغيضًا، لئيمًا، شريرًا، صاخب الضحكة، مفتول الشاربين، مجدّل اللحية، عنيفًا، مجرمًا بطّاشًا، أي إنه باختصار: رئيس عصابة.

ثم لمّا اتصل سببي بكتب شيخنا الأستاذ علي الطنطاوي رحمه الله؛ وجدت أنه أفرد له ترجمة طويلة في كتابه الشهير "رجال من التاريخ"، بعنوان "العالم النبيل"، فهالني أن يلقب الشيخ (السلفي) علي الطنطاوي هذا المبتدع الضال المجرم أحمد بن أبي دؤاد بأنه "عالم نبيل"، أين النبل وهو يشارك في المحنة، ويتسبب في العذاب لمن يخالفونه المذهب؟ ثم فاجأني الأستاذ الطنطاوي حين قال عن المعتزلة إنها "طائفة ربما تكون مظلومة، قد دون التاريخ أخبارها بعد انقراضها بأيدي أعدائها فكذب عليها، ونسب إليها ما لم يكن منها" في المقالة ذاتها.

وقد ترجم المؤرخ الكبير ابن خلكان للقاضي أحمد بن أبي دؤاد ترجمة أكثر فيها من النقولات والأخبار، فذكر أنه كان لا يفتتح الكلامَ مع الخلفاء إلا هو، بخلاف غيره ممن لا يتكلم مع الخليفة حتى يبدأه الخليفة بالكلام، وفي هذا إشارة إلى معرفته بمنزلة نفسه، واعتداده بها، وقد ذكر ابن خلكان أن ابن أبي دؤاد كان معروفًا بالمروءة والعصبية (أي الانتماء والنخوة)، وهو عربي صميم يرجع نسبه إلى إياد بن نزار بن معد بن عدنان، وكان فصيحًا بليغًا يجيد التحدث مع الخلفاء، وقد ذكره دعبل الخزاعي في كتابه الذي جمع فيه أسماء الشعراء، غير أنه لم يكن من الشعراء المكثرين.

وقد بلغ اعتداده بنفسه، مع جودة ردوده وفصاحته وحسن تأتّيه أن المأمون قال له مرّةً: يا أحمد؛ إذا جالس الخلفاء عالمًا فمثلك، فأجاب: وإذا جالس العلماء خليفة فمثلك يا أمير المؤمنين. فتأمّل هذا الردّ الذي يحفظ قدر العلماء ويبجّل الخلفاء بلا خضوع ولا تذلل.

وذكر ابن خلّكان عدة قصص شفع فيها ابن أبي دؤاد لمن أراد بعض الخلفاء العباسيين قتلهم فأنجاهم بعد أن عرضوا على السيف والنطع.

بل إن ابن كثير في البداية والنهاية حين ذكر أحمد بن نصر الخزاعي (وهو من رؤوس أهل الحديث)، وأنه أخذ البيعة من العامّة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (كل هذا بسبب محنة خلق القرآن)، فظفر به الخليفة الواثق، وحُمِل إليه مقيّدًا، وناظره في خلق القرآن، قال بعض من حضر المجلس اقتله يا أمير المؤمنين، ودمه في رقبتي يا أمير المؤمنين، إلا أحمد بن أبي دؤاد، فإنه قال: بل يستتاب يا أمير المؤمنين، فلعل به عاهة أو نقص عقل. وهذه في رأيي حيلةٌ احتال بها قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد ليدفع القتل عن أحمد بن نصر الخزاعي رحمه الله، غير أن الواثق عجل بالسيف فضربه بنفسه فقتله، ثم أمر من يحتزّ رأسه فينصب للعامّة على رمح (على طريقة الدواعش في هذا الوقت). وكثيرًا ما كان يكلم المعتصم في شؤون الناس وعطاءاتهم وإعطاء حقوقهم.

أما عن سبب اتصاله بالمأمون فإن ابن أبي دؤاد كان ممن يجالس القاضي (السنّي) يحيى بن أكثم في مجلس للفقهاء، وكان له صديقًا (تأمّل هذا أخي القارئ). وبسبب يحيى بن أكثم تعرّف إلى المأمون فسأله المأمون – بعد أن استمع إلى حديثه فأعجبه منطقه وعلمُه -: ما أخرك عنا؟ فقال: حُبسة القدَر يا أمير المؤمنين، وبلوغ الكتاب أجلَه. فأمره المأمون أن يحضر إليه في كل مجلس. وهكذا اتصلت الأسباب واتفق الأمر.

ولعل احتجاج ابن أبي دؤاد بالقدَر هو الذي حمل ابن تيميّة على ألا يعدّه من المعتزلة، لأن المعتزلة لا يحتجّون بالقدر. قال ابن تيمية يرحمه الله: "وابن أبي دؤاد لم يكن معتزليًا بل كان جهميًا ينفي الصفات، والمعتزلة تنفي الصفات؛ فنفاةُ الصفات أعمّ من المعتزلة". انتهى كلامه، ومعناه: أن المعتزلة يتفقون مع الجهمية في نفي الصفات، ولكنهم يباينونهم في القدر، فالجهمية جنس، والمعتزلة نوع من هذا الجنس. ثم إن المأمون اقتنع بهذا الاحتجاج، ولم يعقّب ولم يناقش فيه، ما يشير إلى أن المأمون كذلك لم يكن معتزليًا، وهناك نصوص أخرى تفيد أن المأمون كان جهميًا ولم يكن معتزليًا ولا الواثق ولا المعتصم. لكن المقالة لا تتسع لهذا.

وعلى أن ابن تيمية لا يعدّ ابن أبي دؤاد معتزليًا؛ فإنه مترجَمٌ له في طبقات المعتزلة، فالمعتزلة يرونه منهم، ومع هذا، لا تجد في تراجم المعتزلة وطبقاتهم ترجمة لا للمأمون، ولا للمعتصم، ولا للواثق؛ فكأن المعتزلة لا يعترفون بهؤلاء أنهم منهم.

ربما يكون أحمد بن أبي دؤاد قد تورّط في المحنة، وربما يكون متحمسًا لها ومؤيدًا لا متورطًا، غير أنه لا يمثّل جميع المعتزلة، ولا جميع الجهمية؛ إذ عاداه بعض المعتزلة بسبب هذه المحنة، وقاطعوه، وستبقى محنة خلق القرآن بقعة سوداء في سيرته الطيبة، بل بقعة سوداء في تاريخ الإسلام كله؛ فهي محطة من المحطات المهمة التي كان لها أثر كبير في التشكّل الطائفي للفرق الإسلامية، وهي التي رفعت مسألة خلق القرآن من كونها مسألة فرعية ليست من أصول الدين إلى جعلها مسألة تقارب أن تكون من أصول الدين، ويتم على أساسها التكفير والتفريق.

مرّت محنة خلق القرآن، لكن آثارها لا تزال باقية حتى يوم الناس هذا، وانتهى سياقها وأسبابها، ولا تزال تدرّس في كتبنا الدينية كأنها حصلت البارحة، وقد أجاد أبو العتاهية حين قال مخاطبًا أحمد بن أبي دؤاد:

لو كنت في الرأي منسوبا إلى رشدٍ

وكان عزمك عزمًا فيه توفيقُ

لكان في الفقه شغل لو قنعت به

عن أن تقول : كلام الله مخلوقُ

ماذا عليك وأصل الدين يجمعهم

ما كان في الفرع لولا الجهل والموقُ

قلت: أحسن أبو العتاهية إذ عدّ مسألة خلق القرآن من الفروع. أما الموق فهو الحمق، عافانا الله وإياكم.