يمكن أن نلاحظ صفة بارزة تجمع ما يكتبه عديد الكتاب في المملكة حول السينما، والحفلات الغنائية، والرياضة في مدارس البنات، وقيادة المرأة للسيارة... وما إليها من مناشط لا تزال تواجه الممانعة، وتحاط بكثير من الحذر والتحفظ.

وهذه الصفة الجامعة هي في اتجاه الكتابة إلى الدعوة إلى السماح بها رسميا، وجهة التبرير والتسويغ والإقناع، وذلك بالتدليل على الحاجة إليها، والمحاجة بالقيمة الناتجة عنها على المجتمع السعودي وعلى أفراده، اقتصاديا ونفسيا وثقافيا وإعلاميا، ونقض خطاب الممانعة لها، وتفنيد حججه.

وليس في هذا الخطاب التبريري والتسويغي جديد، وإنما هو تكرار لخطاب النهضة والإصلاح العربي الإسلامي، في وجهته الأكثر تسيّداً.

فلم يكن خطاب النهضة العربية الإسلامية -في وجهته تلك- منذ روادها الأول في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، مشتغلا بإحداث الجديد والتنظير له، بقدر ما كان محتجَزاً في التسويغ له وتبريره والإقناع به.

كان الجديد في الوسائل والتقنيات، وفي العلوم والمعارف، وفي الثقافة والفنون، وفي الإدارة والتنظيم... يصطدم بجدار الممانعة والتحريم والتحفظ، ولم تكن الحجج المتأوّلة من الدين أو من الثقافة أو من السياسة أو من غيرها، تعوز أحدا ممن يريد الاصطفاف ضده.

وكان جهد النخب النهضوية والتنويرية مستهلكاً في الإقناع بالجديد، والتسويغ له، وبناء استدلالات حجاجية مضادة للممانعين، إلى جانب تحمّل أذاهم، وتهديدهم، وأحيانا عنفهم.

لكن الممانعة لم تكن تنتهي من حقل إلا لتنتقل إلى غيره، ولا تغادر محظورا إلا لتستأنفه بعد زمن يقصر أو يطول. وهي إن لم تكن رسمية فإنها -وهو الغالب- ممانعة جماعات وفئات متنوعة وأحيانا متنفذة. ولا نزال اليوم نواجه من التحفظ والممانعة، مثلما كان يواجه أولئك النهضويون، بل يفوق أحيانا ما واجهوه.

في فصل عنوانه "الإسلام في أوائل القرن العشرين" من كتاب الشيخ محمد عبده "الإسلام بين العلم والمدنية" حديث عن الجمود الذي ران على العقل الإسلامي، حتى وقف بعض علماء الأزهر ضد علوم الدنيا. وسنعرف منه -على سبيل التمثيل- أين كان ينصرف الجهد النهضوي لأمثال الشيخ محمد عبده، في قوله:

"هل غاب عن الأذهان ما كان ينشر في الجرائد من نحو ثلاث سنين بأقلام بعض علماء الجامع الأزهر من المقالات الطويلة الأذيال الواسعة الأردان، في استهجان إدخال علم تقويم البلدان (الجغرافية) بين العلوم التي يتلقاها طلبة الجامع الأزهر؟ وكان كتّاب تلك المقالات يعرِّضون بمن أشار بإدخال هذا العلم وغيره بين تلك العلوم، وأنه إنما يريد الغض من علوم الدين".

كان علم الجغرافية محظورا في الأزهر، فيما يتضح من كلام الشيخ، وإشارته إلى "من أشار بإدخال هذا العلم" هي إشارة إلى نفسه، فقد كُتبت مقالات في الهجوم عليه، والتعريض به دينيا، اتهاما له بالقصد إلى "الغض من علوم الدين". وهو الهجوم نفسه الذي يصوره الشيخ -أيضاً- في قوله:

"ألا يتخيل المتأمل أنه يسمع من جوف المستقبل صخباً ولجباً، وضوضاء وجلبة، وهيعات مضطربة، إذا قيل إنه ينبغي لطلبة الأزهر أن يدرسوا طرفاً من مبادئ الطبيعة أو يحصلوا جملة من التاريخ الطبيعي؟ ألا تقوم قيامة المتقين، ألا يصيحون أجمعين: هذا عدوان على الدين... هذا تغرير بأهله المساكين؟!".

لم يكن الشيخ جغرافيّاً أو فيزيائياً أو نحوهما ممن يشتغلون عمليا في هذه الحقول التي لم تكن مألوفة لدى الأزهريين، فجهده بوصفه أحد دعاة النهضة ومنظريها ذهب في تسويغ هذه العلوم والإقناع بها، وتحمّل تبعات ذلك في سعي الجامدين إلى النيل منه، والطعن في ضميره، وهو مجهود نفسي وعقلي، ومجهود وجودي بكل المعاني.

ومثال الممانعة لا يقتصر على هذه العلوم المذكورة، بل يمتد إلى غيرها وإلى المخترعات المادية المستوردة من الخارج. كما لا يقتصر على مصر، بل يمتد إلى البلدان العربية كلها. والمراجع التاريخية تُطلعنا على ما يستثير –اليوم- دهشتنا وإشفاقنا على أشكال غرائبية من التحوط والتحفظ والإنكار والممانعة.

وتاريخ الجبرتي حافل بدلائل عن ذلك في مصر، ومثله ما نجده لدى السلاوي في كتابه "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى" وما نجده لدى كامل الغزي في كتابه "نهر الذهب في تاريخ حلب"، وما يورده حافظ وهبة في كتابه "جزيرة العرب في القرن العشرين"، والشيخ عبدالعزيز التويجري في كتابيه: "لسراة الليل هتف الصباح" و"حاطب ليل ضجر".

ولا فرق في هذا الصدد بين الممانعة لـ"وابور البر" أو "التلغراف" أو "التلفزيون" -مثلاً- وبين الممانعة لفكرة الدولة الوطنية الحديثة بمفهومها المدني، والمقاومة لتعليم البنات، والمقاومة للاعتداد بمناهج عقلانية ذات متكآت نظرية حديثة في دراسة الأدب أو اللغة أو علوم الإنسان، والتحفظ تجاه خروج الشعر -ديوان العرب- عن شكله السائد في التراث. ولا فرق بين هذه الأمور التي ذهبت -إجمالاً- في طي الماضي، وبين ما لا تزال الممانعة حية تجاهه -لدينا- مثل المسائل التي ذكرتها في مطلع المقال.

والسؤال الذي يهمنا هنا يتعلق بالمواجهة لخطاب الممانعة والتحفظ ذاك، بخطاب يسوِّغ المجاوزة له ويقنع بها: ما دلالة اللجوء إلى التسويغ للمجاوزة والإقناع بالقبول بما جرى منعه؟ وما ضرورته؟ ولماذا تتجدد الحاجة له، مثلما يتجدد المنع أو التحفظ؟!

إن جهد التسويغ والإقناع المستمر، على ذلك النحو، يعني أن خطاب النهضة والإصلاح لم يمتلك التأسيس النظري، ولم يتشرّب الواقع الثقافي الاجتماعي منه ذلك التأسيس، بما يغني عن استدعاء مبررات ومسوغات لمجاوزة كل ممانعة تستجد.

والدليل على ذلك هو تجدد المنع والقبول، بما يشبه الدوران في المكان نفسه، والتناقض في المنشط الواحد بين صور ممنوعة وأخرى مسموحة في الفترة نفسها.

وبوسعنا أن نرى ذلك في التناقض -في الساحة السعودية- بين تقبُّل التلفزيون والفضائيات التي تعرض الأفلام والأغاني في كل بيت، ومنع السينما والحفلات الغنائية التي تصنع من المشاهدة والاستماع حدثاً لمجموع. كما نرى التناقض بين السماح برياضة النساء في نوادٍ خاصة ومنعها في المدارس الحكومية، وبين السماح بامتلاك المرأة سائقا خاصا، ومنعها من قيادة السيارة بنفسها.

هذا التناقض دلالة على الانتقائية والجزئية، وعلى عدم اتساق موقف كلي ومبدئي يمتلك المشروعية والقوة والسلطة داخل أبنية المجتمع المختلفة ومؤسساته الاعتبارية، فيبدو المجتمع مجزأً ومقطعاً، من جراء ذلك، في مظاهر مختلفة ومتعارضة من حس أفراده به.

ولذلك تبدو الحاجة إلى اجتراح أسئلة النهضة والإصلاح من جديد، حاجة أدعى إلى الاهتمام من المواقف الجزئية.