يتدافع العلماء الراسخون الفتوى، ولا يستعجلون القول على الله تعالى بتحليلٍ أو تحريم، لعلمهم أن ذلك توقيع عن رب العالمين، فكلٌ يود أن أخاه كفاه، وكانوا يقولون: العافية والسلامة لا يعدلها شيء.

أما في زماننا هذا فكثيرٌ من الناس -هدانا الله وإياهم- يستعجل التحليل والتحريم، مع أنه ليس متخصصا، ولم يسأله أحد، وكثيرٌ منهم لا يُفرِق بين الأحكام الشرعية -التي أسند ربنا عز وجل الكلام فيها لأهل الذكر، وتبعا لأمر الله تعالى أمر ولاة الأمر كذلك بإسنادها للعلماء- وبين قضايا الرأي والقصص والخدمات، هذا الخلط جعل الفتوى والكلام في التحليل والتحريم والمنع والإباحة كلأً مباحا لكل كاتب ومتكلم، في حين أن طب الأبدان ومسائل الاقتصاد، لا يتكلم فيها إلا أهل الاختصاص.

ومعلوم أن الحجر لاستصلاح الأديان، أولى من الحجر لاستصلاح الأبدان والأموال، مع أهمية عدم كلام من ليس من أهل الاختصاص فيهما جميعا، إلا إن كان سائلا ومسترشدا.

ومن ذلك مسألة تهنئة النصارى بأعيادهم، وما يسمونه: بالكريسمس، فقد تكلم فيها من لو أمسك عنها، لكان الإمساك أولى به وأقرب إلى السلامة، وأبرأ لذمته إن شاء الله.

لاسيما وقد كفاهم الكلام فيها الراسخون في العلم في زماننا، وعلى رأسهم الشيخان الفقيهان ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله، فقد منعا من ذلك، ومن شاء معرفة تفصيل فتواهما فليرجع إليها.

وهذا الاحتفال بعيد ميلاد المسيح مُنتقَد حتى عند بعض النصارى أنفسهم، فالبابا فرانسيس، بابا الفاتيكان، لا يرى الاحتفال بعيد الميلاد، واصفا إياه "بالجاهلية" وأنه صورة زائفة تصور حكاية خرافية، مائعة، لا وجود لها في الإنجيل، على حد تعبيره.

وإن تَعْجب أخي القارئ فعجبٌ ما يفعله بعض الناس -إذا أراد أن يدخل فيما ليس من تخصصه، وينازع علماءنا المتخصصين الراسخين في العلم- تجده يأتي بمقدمة لحديثه ثم يناقضها مباشرة، فيقول لست من أهل الفتوى، ولست مؤهلا للكلام في دين الله، ولكن.. وبعد (لكن) تأتي الطوام، يُحلِّل ويُحرِّم ويتكلم في دين الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير -وإن سمى ذلك مناقشة ورأيا- فالعبرة بالحقائق لا بالأسماء، فيأتي بأدلة لا علاقة لها بالموضوع، كزيارة النبي عليه الصلاة والسلام لغلام يهودي ليدعوه إلى الإسلام، وكاستدلاله بأن النبي عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة وجدهم يحتفلون بعيدين، وفات عليه: أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يوافقهم، بل قال لأصحابه (أبدلكم الله بهما خيرا)، وبعضهم ينقل أدلة تؤكد حسن تعامل النبي عليه الصلاة والسلام مع الكفار، ومعلوم أن حسن التعامل، وعدم ظلم الكفار، وعدم الاعتداء عليهم بغير حق، ووجوب العدل معهم ومع غيرهم، لا علاقة له بتهنئتهم بأعيادهم الدينية.

بل إن بعضهم استدل على ذلك بحديث القيام لجنازة الكافر، ومع أنه ورد أن هذا الحديث منسوخ بدليل حديث علي رضي الله عنه كما في الموطأ ومسند أحمد بأسانيد صحيحه، وحسنه الألباني ونصه: (أمَرَناَ -أي النبي عليه الصلاة والسلام- بالقيام في الجنازة ثم جَلَس بعد ذلك، وأمَرَنا بالجلوس)، إلا أنه ليس في ذلك دليل على جواز تهنئة الكفار في أعيادهم، ولا علاقة لذلك بالموضوع حتى ولو لم يكن الحديث منسوخا، لأن سبب القيام هو كون الموت فزعا، بغض النظر عن الشخص الميت، ولما ورد في الروايات، ومنها: رواية لأحمد: {إنما تقومون إعظامًا للذي يقبض النفوس} ورواية للحاكم: {إنما قمنا للملائكة} ورواية ابن حبان: {إعظامًا لله الذي يقبض الأرواح}.

وأنا أعجب لماذا بعض المسلمين -هداهم الله- لديه إفراط في التعامل مع الكفار، وبعضهم لديه تفريط، هناك من يعتدي على الكفار، ويظلمهم، ويريد أن يُكرههم على الدخول في الدين، وهناك في المقابل من يتتبع سنن الكفار، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخله!

لماذا هذه المعادلة العقيمة، إما الغلو وإما الجفاء؟ في حين أن الوسطية التي جاءت بها الشريعة، هي عدم موافقة الكفار فيما هو من خصائص دينهم، وعدم التهنئة بفعل أي عملٍ (ديني) ليس عليه أمر النبي عليه الصلاة والسلام، سواء صدر من مسلم أو كافر، وأيضا عدم ظلم الكفار، كما قال تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين).

وقد يرى القارئ الكريم عدم الحاجة إلى المقدمات التي ينقضها أصحابها بحرف (لكن) كقول بعضهم: لست من أهل العلم والفتوى ولكن.. وبعد (لكن) يضع نفسه مفتيا وعالما، وكذا قول بعضهم: أنا لا أحب الغيبة وليس من عادتي أن أتكلم في الناس ولكن.. وبعد (لكن) يتمضمض بالأعراض، ويُمارس الوظيفة الإبليسية، وكقول بعضهم للمتحدث: لا أحب أن أقطع واردك ولكن.. وبعد (لكن) يقطع الوارد والصادر.

ونحو ذلك من هذه المقدمات التي تضر ولا تنفع، والموفق من نوَّر الله بصيرته، وحرص على سلامة ذمته، واكتفى بما قاله الراسخون في العلم، ليلقى الله سالما من تبعات القول عليه سبحانه.

إن قيل لماذا قلت: النصارى، ولم تقل: المسيحيين؟

فالجواب: لسببين: الأول: الآيات والأحاديث سمتهم (النصارى)، ونحن لا نتجاوز القرآن والحديث، ولذا: نسمهم بما سماهم الله به ورسولُه.

الثاني: القول بأنهم مسيحيون، تزكية لهم، ويوهم أنهم أتباع المسيح المطيعون له، وليس كذلك، لأن عيسى عليه الصلاة والسلام بشَّر برسولٍ يأتي من بعده اسمه أحمد، وإذا نزل في آخر الزمان يعمل بشريعة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، بينما هؤلاء يخالفون النبي عيسى عليه الصلاة السلام في إيمانه بنبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وهو عليه السلام لم يقل إنه ابن الله، ولم يأمر أن يُتخذ وأمه إلهين من دون الله، كما يقول من ينسب نفسه إليه، فهو بريء منهم، كما في قوله تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب* ما قلتُ لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على? كل شيء شهيد).