واجهتُ صعوبة شديدة في كتابة هذه المقالة؛ فكيف يمكنني الكتابة عن الصمت بالكلمات. الكلمات التي هي نقيض الصمت تماما.
في البداية، يجب أن نعي أن الكلام ليس امتلاء وفعالية وحضورا، كما يقول البعض، كما أن الصمت أيضا ليس "غيابا" أو "عدما"، كما يصفه البعض الآخر. بل إنه في أحيان كثيرة بلاغة الصمت قد تفوق أو تضاهي بلاغة الكلام، فغياب الكلام يترك المجال مفتوحا لمزيد من المعنى، وهذا ما يفسر لنا سر فعالية الصمت وقوته، فهو قد يبشر وينذر، وقد يخيف ويبعث الفزع في القلوب.
هناك صمت يسبق عاصفة المطر، هناك صمت في الغابات قبل أن تهب الرياح، هناك صمت في ذواتنا، وهناك أيضا صمت يغني عن مئات الكلمات. الصمت يمحنا الفرصة والوقت لاستكشاف عواطفنا وأفكارنا، وهو تعبير عن موقف، ويعد أفضل جواب محتمل للمنطق وللا منطق، وهذا ربما ما دفع الكاتب الإيطالي روبرتو موربوجو إلى أن يتساءل: لماذا كل هذه اللغات؟ ألم يكن يكفي الصمت؟
إن من لا يفهم صمتك هو غالبا لا يفهم كلماتك، وهذا ما يجعل الصمت شيئا إيجابيا وذا قيمة ومعنى. ولو تأملنا قليلا لوجدنا أن الكلام نفسه يصدر عن صمت، ففي كل مرة نتكلم فيها هناك بضعة أعشار من الثانية تسبق ذلك؛ وذلك كي يتسنى لنا التفكير فيما سنقول. الصمت هو شرط لمتعة التأمل والخشوع والإنصات إلى الذات، وهو أفضل من الكلمات التي لا طائل وراءها، وإذا كان الإنسان يحتاج إلى سنتين ليتعلم الكلام، فإنه كما يقول إرنست همنجواي يحتاج إلى خمسين سنة ليتعلم الصمت. هذا على نطاق الأفراد، أما على نطاق المجتمع فإنه كلما كانت هوية المجتمع مهتزة أو مضطربة أو قلقة أو مكبوتة أو محاصرة، كلما كانت مساحة الصمت واسعة ومقننة وتحت المراقبة، فنحن لا نصمت إلا بالقدر الذي يفرضه نظام الكلام في مجتمعنا، ولذلك ينبهنا هيدجر إلى أن السكوت لا يعني أن يكون المرء أخرس، فالقدرة على السكوت حسب هيدجر جزء من ماهيتنا، لأننا نوجد بما نقول، وقديما قال سقراط: تكلم حتى أراك.