تطلق وزارة التعليم منذ عدة سنوات برامج مختلفة لمنسوبيها من الطلاب والمعلمين والقادة، ولكل برنامج أهداف ورؤى ورسالة تسعى لتحقيقها من خلال إلزامية تنفيذها في المدارس. وبعيدا عن طريقة التخطيط لمثل تلك البرامج وآلية التنفيذ التي تطبق من خلالها وعن مدى تحقيقها للنتائج المرجوة منها والتي تُقاس عادة من خلال ما يثبت ورقيا أو من خلال مؤشرات قياس الأداء التي يتابع بها عمل الإدارات التعليمية والمدارس وتتسابق على إنجازها بطرق آلية ومبرمجة، فإن الفائدة التي يفترض أن نلحظ انعكاسها على سلوك الطلاب والطالبات خاصة تلك البرامج التي ينصب الاهتمام فيها على تقويم سلوك الطلاب ووقايتهم من الانحرافات الفكرية والسلوكية وتهيئتهم للتعايش السلمي في مجتمعاتهم وأوطانهم وعالمهم الكبير كبرنامج فطن على سبيل المثال، لا يظهر أثرها بشكل آني وسريع، بل ينغرس في أنفسهم ويصبح قيمة إنسانية تنعكس على تعاملاتهم مستقبلا، وعلى ردات أفعالهم وتوجهاتهم الاجتماعية والنفسية وهم كبار، ويفترض منهم وقتها منفعة أنفسهم ومجتمعهم ووطنهم.

ولكن الوزارة وقعت في مأزق التناقض مع ما تطرحه من برامج وما تفرضه من قرارات وتوجهات من جهة، ومع تلك الأمور الوزارية مجتمعة وواقع المجتمع والحياة التي يعيشها الطالب في هذا الزمان من جهة أخرى. فعلى سبيل المثال: تحرص الوزارة في توجهاتها الأخيرة على جعل الطالب يعيش انسجاما مع الحياة العامة خارج المدرسة وداخلها وما يواجهه من تسارع في وتيرة الحياة وما يتعرض له من مؤثرات إعلامية مستمرة ومرتبطة بحياته، ومع ما يأخذه من مناهج وأنشطة مدرسية وبرامج وزارية؛ ونعني بذلك الانسجام: القدرة على الحوار مع الآخرين وتقبلهم والتعايش السلمي مع المختلفين عنهم في الانتماءات الفكرية والمذهبية والدينية، والإلمام بالمتغيرات التي تحدث على مختلف الأصعدة في الحياة بطريقة واعية وواقعية تمكنهم من التماهي معها وكسب المفيد منها لصالحهم والبعد عن المسيء والضار. وجاءت المجالس الطلابية المطبقة مؤخرا في المدارس دليلا على محاولات الوزارة مثل هذا التصالح مع الآخرين ومحاولة فهمهم عن طريق البدء في الحوار والنقاش في الأمور المدرسية والطلابية، وربما يتوسع الأمر لتشمل جوانب مختلفة في المجتمع والتربية والتعليم، ولعل الوزارة لديها خططها المحكمة لهذا، فضلا عن الأنشطة التوعوية والبرامج المتنوعة التي تدور حول فكرة رفع القيم الإنسانية والدينية لدى الطلاب وتعزيز وعيهم الاجتماعي والنفسي. وفي نفس الوقت الذي تبذل فيه هذه الجهود يحدث أن تصدر قرارا أو تتيح الحديث عن أمر ما بصورة مبالغة ولافتة تهدم في لاوعي النشء ما قد تحاول تعزيزه، مثل تحذيرها الذي جاء قبل أيام للمدارس عامة والأهلية خاصة عن وجود أي مظاهر للاحتفال برأس السنة، وعزمها على تنفيذ جولات تفتيشية مفاجئة للمدارس لرصد أي مخالفات.

الدعوة إلى محاربة وتجريم مظاهر الاحتفال والفرح بأي مناسبة تذكر في حياتنا عامة وفي مدارسنا خاصة وتكريسها كفكرة منبوذة في أنفس النشء منذ نعومة أظافرهم؛ جعلت الحياة جافة وقاسية وموضع ريبة وشك لأي داع للفرح والابتهاج. مثل هذه المناسبات الدينية وغير الدينية لو تم التعامل معها بشكل طبيعي وإبراز جوانبها الإيجابية ودورها في تعزيز التسامح مع الآخر والتعرف على ثقافة الشعوب وتاريخ المجتمعات والأديان لما وجد التطرف المذهبي والديني، والتجريم المبالغ فيه لمجرد تهنئة متبادلة مع من يختلف معنا في الدين، وجعلها أعظم من كبائر ومحرمات دينية وأخلاقية كما يتداول كل عام في مثل هذه الفترة من العام من فئات مأزومة أخلاقيا وإنسانيا تتصدر المشهد المتدين.

قريبا من هذا ما يحدث في مدارسنا عند بدء العام الهجري الجديد، وعند ذكرى المولد النبوي، تصبح تلك الفترة في الأنشطة والإذاعات الصباحية فترة للتحذير من الاحتفاء بهما أو ذكرهما وسرد للوعيد والويل والثبور لمن يبارك أو يهنئ داخل الأسوار بهما بدلا من استثمارهما في تعزيز القيم الإنسانية والدينية لدى الطلاب. وقد كان الأمر يحدث مع احتفالات اليوم الوطني حتى وقت قريب، حتى أقرت الوزارة الاحتفاء باليوم الوطني وجعلت له برامجه الخاصة وتقاريره الملزمة، فاختفت الأصوات التي كانت تنكر وتدين الاحتفاء بالوطن ووحدته وصارت من الهاتفين المباركين، وصرنا نلمس انعكاس مثل هذه الاحتفالات الوطنية على رفع القيم الوطنية لدى الطلاب.

بإمكان وزارة التعليم اختصار الكثير من البرامج التي تضعها كل عام وتنفق عليها جهودا مالية وبشرية كبيرة، وقد تربك بها سير العملية الدراسية إذا ما جاءت مفاجئة دون تخطيط يناسب الواقع الدراسي، بإمكانها اختصار كل ذلك بتعزيز القيم الإنسانية البسيطة المتعارف عليها حول العالم من خلال بعض المناسبات العامة التي تتكرر والنظر لها من زاوية إيجابية، وإزالة اللبس الذي يحدث حولها كل عام كالتهنئة بالعام الهجري الجديد أو برأس السنة الميلادية أو بالمولد النبوي، أو بالتفاصيل الصغيرة في حياة كل فرد منا، وأن تجعل من إشاعة الفرح ونشر البهجة وتقديس الحياة ومحبتها أسلوب حياة لا يتقاطع مع دعوات البكاء والخوف والموت لتخلق جيلا متزنا، قادرا على أن يعيش حياة واحدة طبيعية لا تتناقض مع ما يأخذه داخل المدرسة ومع ما يراه ويتلقاه عبر سيل الإعلام الجارف الذي يغريه في النهاية ويأخذه إليه عنوة.