أصدرت وزارة التعليم تعميماً يتضمن منع المدارس العالمية من الاحتفال برأس السنة الميلادية الجديدة 2017، وقامت الوزارة بجولات ميدانية على المدارس في كافة مناطق المملكة، وذلك لرصد مظاهر الاحتفالات وفقاً لمعايير معلنة كوضع لافتات على الجدران، أو وضع رموز "بابا نويل" في الفصول الدراسية، باعتبار أن مثل هذه الاحتفالات يعدّ من المخالفات الشرعية التي لا يجوز للمسلمين مشاركة أهل الكتاب فيها، لأنها من جنس أعمال دينهم!
بغض النظر عن تعميم وزارة التعليم السابق، وما تضمنه من محتوى يختلف عليه علماء المسلمين عموماً، ولهذا لن أخوض في هذه المسالة، لكن الغريب في هذا الموضوع هو حرص وزارة التعليم على تشكيل اللجان والفرق التفتيشية للقيام بالجولات الميدانية على المدارس في كافة مناطق المملكة، وفرض عقوبات مشددة عليها في حال ثبوت المخالفات، وفي الوقت ذاته تعاني العديد من المدارس الحكومية والأهلية من ضعف الصيانة وضعف الإشراف عليها، وذلك يشكل خطورة عالية على الطالبات والطلاب مثل الالتماسات الكهربائية، والأسلاك المكشوفة والعيوب الموجودة في السلالم وطفح مياه الصرف الصحي، وعدم عمل شبكات إنذار الحريق! ومع ذلك لا تقوم الوزارة بعمل جولات تفتيشية على الصيانة في المدارس، ولا تفرض أية عقوبات على المدارس المخالفة!
وبناءً على ما سبق، فإني أتساءل: هل مظاهر الاحتفالات برأس السنة الجديدة أكثر أهمية وأكثر ضرراً من مخاطر ضعف الصيانة وأمن وسلامة الطلاب والطالبات لدى وزارة التعليم؟ وما سبب هذا الاهتمام يا ترى؟
ليست وزارة التعليم وحدها تعاني من هذه الإشكالية الثقافية، وإنما المجتمع بأسره يعاني من هذه المشكلة، وهي مشكلة عدم الاهتمام بالإنسان أولاً، والتضحية به في سبيل الفكرة أو الأيديولوجية إن صح التعبير، فقد نجد في بعض الأحياء السكنية على سبيل المثال مراكز صحية متهالكة وبجوارها مساجد مبنية على أفضل المعايير الهندسية أو العكس من ذلك، عدم وجود مركز صحي واحد في ظل وجود عشرات المساجد في الحي الواحد!
في الأديان والثقافات الأخرى، توجد أطنان من الذهب والفضة والمجوهرات في المعابد المقدسة، وهي عبارة عن هبات يقدمها الأغنياء والفقراء على حد سواء، فحسب تقديرات المجلس العالمي للذهب تمتلك بعض المعابد نحو 22,000 طن من الذهب تتعدى قيمتها التريليون دولار، ومع ذلك تعاني تلك المجتمعات من الجوع والفقر والعوز، فقد أصبح المعبد أغلى من الإنسان نفسه!
سئل أحد المشايخ عن قول مأثور ينسب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الكعبة المشرفة يتم تداوله في مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت يقول فيه "بطون المسلمين أولى من أن أكسو الكعبة بالحرير"، فكانت الإجابة بإنكار مقولة عمر، لأنه لا أصل لها في كتب الحديث، وإنما الصحيح عكس ذلك، فقد روى البخاري في صحيحه (باب كسوة الكعبة): "بعد أن تولى عمر بن الخطاب الخلافة أراد أن يقسم المال الموجود في الكعبة بين فقراء المسلمين، فقال له شيبة بن عثمان بن أبي طلحة القرشي: لن تفعل ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر من بعده كانا أحوج إلى المال منك ولم يأخذاه، فسكت عمر وامتنع عن أخذ المال".
ومما سبق، يتضح تأثر الخطاب الديني بتقديس الأماكن والطقوس على حساب الإنسان نفسه، فهذه الفكرة موجودة في كل دين وفي كل مذهب، ولكنها قد تختلف في المظهر والسلوك من مجتمع إلى آخر، مع أن الرواية السابقة الواردة في صحيح البخاري لها مفهوم آخر عند بعض علماء المسلمين، ولكن الخطاب الديني للأسف يتجاهل مثل هذه الآراء، فعلى سبيل المثال يقول ابن حجر رحمه الله "أما التعليل الأول فليس بظاهر من الحديث، بل يحتمل أن يكون تركه صلى الله عليه وسلم لذلك رعاية لقلوب قريش، كما ترك بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، ويؤيده ما وقع عند مسلم: .. لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله.. الحديث".
وعلى هذا الأساس، قد نستطيع أن نفهم الآن سبب اهتمام وزارة التعليم بالمخالفات في المدارس، في الوقت الذي تهمل فيه ما هو أخطر من ذلك بكثير كأمن وسلامة الطلبة والطالبات، وهذه الإشكالية قد نجدها للأسف في الثقافة الاجتماعية للناس ككل، وقد يكون من أحد أسباب وجود مثل هذه الثقافة هو الخطاب السائد، والذي يلغي إنسانية الإنسان، فهو مجرد تلميذ فقط، حيث يجب عليه أن يستلهم المعلومات من رجل الدين ويكررها كالببغاء دون تفكير، فهو خادم للفكرة وليس العكس!