من آيات الله العظيمة، وكل آياته عظيمة، قوله سبحانه وتعالى، في سورة الإسراء: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}، وتذكر كتب التفسير تفسيرا جميلا لمعنى الآية، قال سيدنا ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ، : "{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، أي لا ترم أحدا بما ليس لك به علم"، وذُكر عن الإمام قتادة السدوسي، التابعي والمفسر المعروف، قوله: "لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم، فإن الله تبارك وتعالى سائلك عن ذلك كله"..

الآية السابقة، تحكم حكما قطعيا على عدم الخوض في أي أمر ديني، أو دنيوي، إلا بعد الإحاطة بجوانبه المختلفة، وفي ضوء هذا اجتهد الراسخون في العلم، وأنشؤوا لنا قاعدة، تصلح نبراسا لنا في كل أمورنا الخلافية، وهي: "الحكم على الشيء فرع عن تصوره"، أو "الحكم على الشيء فرع تصوره"، أو "الحكم على الشيء فرع على تصوره"؛ ولا شك في أن المتحدث في أي مسألة لم يصدر في حكمها نص صريح واضح؛ يحتاج إلى أن يعتني اعتناء كاملا بـقاعدة (التصور)، أو ما يسميه المحققون (تحقيق المناط)، خاصة وأن الأحكام والمسائل بمختلف أقسامها وأنواعها تبنى عليها..

من أجمل تعريفات (قاعدة التصور) ملخص للإمام ابن الجوزي، ذكره في كتابه (تلبيس إبليس)، حيث قال: "ينبغي أن يُنظر في (ماهية الشيء)، ثم يطلق عليه التحريم أو الكراهة أو غير ذلك"، وفي نفس السياق يقول الإمام أبو حامد الغزالي، في كتابه النفيس (حقيقة القولين): "على كل ناظر في المسائل وظائف خمس: أولها: وضع صورة المسألة وفهمها، والثانية: طلب الاحتمالات فيها واستقصاؤها، والثالثة: حصر ما ينقدح من جملة تلك الاحتمالات، وتقليلها ما أمكن، والرابعة: طلب أدلة الاحتمالات، والخامسة: طلب الترجيح في تلك الأدلة"؛ وعندما سئل الشيخ ابن تيمية فيمن عزم على فعل محرم عزما جازما فعجز عنه، هل يأثم بمجرد العزم؟، أجاب بأن "هذه المسألة ونحوها، تحتاج قبل الكلام في حكمها إلى حسن التصور لها"..

كما بدأت بآية، اختم بأخرى، وهي قوله سبحانه، في سورة الكهف: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}، ومنها استفاد العلماء عدم المبادرة إلى الحكم على أي واقعة، أو نازلة، أو قضية، حتى تتم معرفة المقصود منها، ويتم تصورها تصورا صحيحا كاملا، وقبل هذا وبعده التأكد من تفاصيل ذات المسألة، وليس الاعتماد على الآفات والرواة ـ "وما آفة الأخبار إلا رواتُها" ـ ، ودون ذلك جهل فاضح، وخلل كبير، وفساد عريض.