يلفت النظر إطلاق تونس، البلد الأول الذي انطلقت منه شرارة ما سمي بـ"الربيع العربي"، والذي يبدو في طريقه إلى التعافي من خضته وفوضاه، مؤتمرا وطنيا للشباب، على أعلى مستويات الدولة، بمناسبة الذكرى الخامسة للثورة، يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين 27-28/ 12/ 2016.

وما يلفت في هذا الحدث دلالته على الاهتمام بالشباب اهتماما يحسب للخطورة الكامنة في الشباب، وللطاقة الحيوية الناتجة عنهم، وهما وجهان متصلان ومتفاعلان في اقتضاء تلك الأهمية نحو الشباب بقدر متساوٍ في البلدان العربية كلها، وليس في تونس وحدها.

حين اندلع العنف والصدام في الثورات المسماة بـ"الربيع العربي"، بدءا من ثورة تونس في النصف الثاني من ديسمبر عام 2010، وعدواها وتجاوباتها في مصر واليمن وليبيا وسورية، ارتفعت الأصابع لتؤشر إلى الشباب الذين كانوا وقودها ومصدر اضطرامها.

وحين تتوالى تفجيرات الجماعات الإرهابية، وتتناثر –من جرائها- أشلاء الأبرياء ودماؤهم في الأوطان العربية والإسلامية والغربية، ترتفع الأصابع لتؤشر –أيضا- إلى الشباب؛ فهم أدوات هذا العنف الأرعن، وسلاحه الدامي.

وحين تتراخى مسيرة التنمية، وتخفق إدارتها، وتعجز خططها عن حسابات المستقبل، ترتفع الأصابع –كذلك- لتؤشر إلى الشباب؛ لأنهم ضحية أي إخفاق في الحساب للمستقبل، وأعظم مصدر للقلق بشأنه.

هذه كلها علامات ملموسة فعليا على الخطورة التي يمثلها الشباب في البلدان العربية، ولكنها علامات تبرهن على أن الشباب ليسوا جوهرا مستقلا في معنى الخطورة؛ فخطورتهم متغير ضمن المتغيرات الاجتماعية، وهم –لذلك- لا يصبحون خطرا إلا عند توافر ظروف التغير وأسبابه التي تشعل فتيل خطورتهم.

أما خارج المتغيرات التي تجعل الشباب خطرا يهدد الاستقرار، فإن الشباب دلالة فتوة وطاقة وإقبال على الحياة. وهم – من هذه الوجهة- القوة الأكثر إسهاما في البناء والازدهار والوعد بالمستقبل للمجتمعات.

وسواء نظرنا إلى الشباب من جهة ما يمتلكونه من قوة وحيوية، أم من جهة امتيازهم بالحماس والجرأة وحب المغامرة، فإن الجهتين معا تتطابقان في الدلالة على أن الشباب عامل توسيع للحياة وتسريع لوتيرتها، وفي النتيجة دَفْع بها إلى التقدم والتغير.

إن الإقبال على العمل والإنتاج صفة شبابية؛ لأنها منبثقة عن قوة الشباب ومقدرته، وهي العلة نفسها التي تجعل الاستمتاع بالحياة والإحساس بمباهجها ولذائذها حاجة شبابية، يتحسر على زمنها من ولَجَ مرحلة المشيب، ويتواتر حنينه وأسفه.

ولنا أن نتصور –ما دام الأمر كذلك- كيف تبدو الحياة سجنا، إذا ما انتزعنا منها دوافعها وفواعلها لدى الشباب، وكيف تبدو كئيبة إذا أفقرناها من تفاؤلهم وحيوية أرواحهم، وكيف يذوي جسدها وتجف غضارتها حين تغلبها روح المشيب ويقهرها يأسه وتحفظه!

هذه هي الصفات الإيجابية للشباب، التي تبعث على الطمأنينة إليهم، والبهجة بهم، والتثمين لدورهم في إنهاض الحياة، ولكنها تبرهن –كما برهنت خطورتهم- على أن الشباب ليسوا جوهرا خالصا لهذه الصفات الإيجابية، بل هي فيهم علاقة تغير، توجبها الظروف التي تتيح تألقهم، والمنظور الاجتماعي الذي يستوعبهم ويطلق حيويتهم البناءة إلى أقصى مداها.

وأول ما يفجر العلاقة بين الشباب وبين واقعهم الاجتماعي والإنساني، ممارسة "التهميش" ضدهم. وهي ممارسة تنتج لديهم شعورا بالاغتراب، ويتدرج هذا الشعور في أشكال من الإحساس بالاحتقار لهم واللامبالاة بهم واضطهادهم.

وليس المقصود هنا ممارسة فردية ضدهم، وإنما ممارسة الثقافة الاجتماعية بما تنطوي عليه من نظام قيم وعادات، ومن أنظمة عمل وإدارة، وبما تشتمل عليه من تحيزات، وما ينتج عنها من وقائع عملية ومعيشية حية.

فمن طبيعة الثقافة الأكثر نمطية في المجتمعات العربية، النظر إلى الشباب باستخفاف، والخوف من تسلمهم مقاليد الأمور، أو استقلالهم بالرأي، والوثوق بهم. وفي مقابل ذلك تدين الثقافة بالحكمة والعقل والثقة للكبار، وإلى "الذكور" منهم تحديدا.

وتتضاعف مأساة هذه الثقافة بشيوع التحيزات والمحسوبيات فيها، على نحو يلغي مبدأ الكفاءة، ويقضي على قيمة الجهد والموهبة والتميز، ويسبغ على الواقع كيفية عبثية؛ لأن الواقع –عندئذ- يصبح خارج المعقولية.

فإذا أضفنا إلى ذلك ما تصنعه أنظمة العمل من محاباة مجحفة لأرباب المال، وانحياز إلى الرأسمال، فإن الشعور المأساوي لدى الشباب الغض، يستحيل في لجة وحشية سوق العمل إلى شعور بالاضطهاد لهم.

وأظن أن هذه الأوضاع المأساوية من تهميش الشباب والتحيز ضدهم، تتضافر مع وضع أكثر مأساوية، وهو ما تقذفهم إليه المجتمعات العربية من تناقضات وتعارضات إيديولوجية متصارعة ومتنابذة، وما يعيشونه فيها من تقطيع وتقسيم لأوصال السلطة والنفوذ.

ففي المجتمعات العربية تعليم ديني في مقابل تعليم "عام" أو "مدني"، وفيها نفوذ للمؤسسة الدينية ونفوذ للمؤسسة السياسية، وجماعات وأحزاب دينية تتنازع الحضور والقوة والهيمنة مع المدنية، ومع العشائرية والمناطقية والطائفية أو أي فئويات أخرى. وهناك تقليديون وحداثيون، وعروبيون وإسلاميون... إلخ.

وليس ذلك في حد ذاته مشكلة، فلا يوجد مجتمع بلا اختلاف وتنوع: المشكلة عربيا هي في جذرية الاختلاف وتفاصله الحدي، ووضْعه أسئلة الهوية والوجود، ومن ثم السلم الاجتماعي في دائرة التنازع والإقصاء المتبادل.

هكذا أصبح قطاع عريض من شبابنا العربي نَهْب أسئلة قهرية ودموية بالضرورة؛ لأن إجاباتها دائما حدية: "إما... وإما..." "أبيض أو أسود".

وكان الحل لهذه التعارضات والتناقضات الحادة لدى بعضهم، في الاضطرار إلى التحول أو الهجرة والرحيل، على النحو الذي ينتهي به إلى الحل لتمزقه وتعارضات وعيه بذاته.

وليس انضمام بعض الشباب العربي إلى أحضان الجماعات الإرهابية، والالتحاق بركب التشدد، إلا لأنه يتوهم في هذه الوجهة إجابات توحد ذاته الممزقة، وتمنحه معنى وقيمة وجودية، وتسبغ عليه دورا "رساليا" تهيأ ذهنيا له، وخذله واقعه في التجسيد له.

ومثْل ذلك المغامرة بالرحيل إلى أوروبا، فهي لا تنحصر فقط في البحث عن الخبز، بل تشمل البحث عن الذات، أي عن كينونة متناسقة وامتلاء وجودي.

أما غير هؤلاء وأولئك، فقد يسقط بعضهم –بطريقة فاجعة- في التحلل وإدمان السموم التي يتوهمون أنها تنسيهم الواقع وتغيبهم عنه، ويقبع غيرهم في الانتظار واليأس حتى يحل المجتمع تناقضاته ويتعرف أمام ذاته خارج كل الممارسات العنيفة والإقصائية.

إن نسبة الذين تقل أعمارهم عن 30 سنة، تتراوح في البلدان العربية بين 60-70% من عدد السكان (ومن تقل أعمارهم عن 40 سنة في المملكة -تحديدا- 80%). وهذا يعني أن الدول العربية، بهذه الأعداد من الشباب، تشبه مخزنا لذخيرة ثمينة من طاقة العمل والتقدم، أو مخزنا للبارود.