اطّلعت على كتابات، ومقاطع مرئية، يتداولها بعض الناس، تتلخص في التشكيك في حقيقة دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله ومما جاء فيها: نفي وجود الشرك في زمن الإمام محمد، إلا في حالات قليلة عند بعض الأفراد، وأن الباعث على دعوته ليس وجود الشرك، وإنما الرغبة في تكوين سياسي؛ لما رأى من تصدع في القبائل، ويستدلون على ذلك بأن هناك من العلماء مَن كَتَب في الفقه مجلدات، ولم يتكلم عن التوحيد والشرك، وأن بعض البلاد لا يُوجد فيها شرك - بشهادة الإمام محمد بن عبدالوهاب نفسه - وفي المقابل يعتذرون عن مخالفات أصحاب العقائد المخالفة، ويقولون: إن الخلافات بين الشيخ وخصومه في تفاصيل بعض المسائل التي لا تمس أسس العقيدة. وينتقدون الوقوف عند كلام الإمام محمد بن عبدالوهاب باعتباره جاء لفترة زمنية انتهت.

وذكروا أن هذه الدعوة الإصلاحية فيها توافق مع العلمانية، باعتبار أن أئمتها من المشايخ لم يرغبوا في تولي السلطة في فترات سقوط الدولة السعودية الأولى والثانية مع جدارتهم، ويزعمون أن الأيديولوجية الليبرالية من صميم الإسلام.

ولما كان مروجو هذه الشُبه والأغاليط يُستضافون في القنوات، وينشرون من خلالها شُبَههم، ثم تُوزّع على شكل مقاطع في اليوتيوب، بالإضافة إلى ما يكتبونه، ولما في ذلك من إضلالٍ للناس؛ فقد رأيت الجواب عنها، باختصار شديد، بما تسعه مساحة هذا المقال.

فأقول: أولا: ما الهدف من إثارة هذه الشبهات؟! ولماذا تولى كِبَرَها قومٌ معجبون بأنفسهم وتحليلاتهم، رغم أنهم ليسوا من أهل الاختصاص، وغالبُ اعتمادهم على كتب المستشرقين، وعلى من درسوا عليهم من الغربيين، وما نقلوه من كتب أئمة الدعوة، يتبعون فيه المنهج الانتقائي، مع تحريفهم لمعنى ما ينقلون، وسيأتي ذكر أمثلة على تحريفهم، وهم بطرحهم هذا يخالفون ما كتبه جميع أهل الاختصاص من العلماء الراسخين في بلادنا السعودية منذ زمن الإمام محمد إلى يومنا هذا.

ثانيا: ظهر لي - من خلال طرح أصحاب هذه الشبهة - أنهم يجهلون أو يتجاهلون واقع الدعوة، وما كتبه الإمام محمد وأئمة الدعوة، وما كتبه مَن أدرك تلك الفترة، بل ويجهلون تعريف التوحيد، وتعريف الشرك، وأقسام الشرك، فالتوحيد عندهم: هو الوحدة، والردة عندهم: هي الردة السياسية، وأنواع الشرك عندهم: هو الشرك المؤسساتي، والشرك الثقافي، هكذا يعلنون جهلهم بالتوحيد على رؤوس الأشهاد، ويبتدعون أنواعا للشرك ما سبقهم بها أحد من العالمين، فكيف يتكلمون بما لا يعلمون؟!

ثالثا: دعوة التوحيد وعبادة الله وحده، وترك الشرك، هي التي تمنع الفتن، وتمنع تصدَّع القبائل، وهي التي تجمع الناس على الحق، وهي التي تحقق الغرض الذي من أجله خلق الله الإنس والجن، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فهذه الدعوة هي الأصل التي أمضى الإمام محمد بن عبدالوهاب حياته كلها في سبيل تحقيقه، وما يحصل من اجتماع وخير بسبب الدعوة لهذا الأصل فهو من ثمرات التوحيد، لكن أصحاب الشبهات يحاولون قلب الحقيقة، وأنَّى لهم ذلك، فالمصادر الموثوقة موجودة، وقد جرت سنة الله أنه يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، فدعوة الإمام محمد هي دعوة للتوحيد، في زمن انتشرت فيه الشركيات، وبحمد الله فقد نجحت، وكان من أقوى أسباب نجاحها أن هيأ الله لها حُكّاما آمنوا بها، ونصروها، وآزروا دعاتها، وهـم آل سعود بدءاً من الإمام محمد بن سعود، ثم أبنائه وأحفاده من بعده، إلى يومنا هذا، ونسأل الله أن يُديمهم على الخير ويثبتهم عليه.

رابعا: كُتُب الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، لاسيما المجلد الخامس المسمى (الرسائل الشخصية)، مليئة بالحوارات بين الشيخ وخصومه، يدعوهم إلى التوحيد، ويحذرهم من الشرك، وكانوا يوردون عليه شبهات تتعلق بتوحيد الألوهية، واتخاذ أصحاب القبور شفعاء، وكان يجيبهم بعلم وحجة قوية، ومَن شاء فليرجع إليها، وليرجع أيضا إلى كتاب كشف الشبهات، ليقف على الشركيات التي كشفها الإمام محمد رحمه الله.

وكان هناك أقوام يطوفون على قبر زيد بن الخطاب، ويطلبون منه المدد، فيقول لهم: اللهُ خيرٌ من زيد، كما هو موثق بالمصادر، ولاريب أن هذا شرك بالله تعالى، وبالتالي فدعوى نفي كثرة الشرك، يُكذبها الواقع، وقد أُلِّفَتْ في ذلك رسائل علمية، بينت الشرك الذي وُجد في زمن الإمام محمد بن عبدالوهاب، وقد هممت أن أسرد نقولا منها، لكن منعني من ذلك ضيق المساحة، وأُحيل القراء الكرام إلى كتب الشيخ، وكتب أئمة الدعوة، والرسائل العلمية المؤلفة في هذا الشأن، وهي كثيرة، ومع وجود الشرك وكثرته، فإن هذا لا يعني عدم وجود التوحيد ودعاته، بل هم موجودون قبل أن يُخلق الإمام محمد بن عبدالوهاب، وموجودون أيضا في زمنه، وبعضهم يُعد أستاذاً للإمام محمد، ومنهم على سبيل المثال: والد الشيخ محمد، والعلامة محمد حياة السندي الحنفي، والعلامة عبدالله بن إبراهيم بن سيف الشمري، الذي قال عنه تلميذه الإمام محمد بن عبدالوهاب: (كنت يوما عنده فقال لي: أتريد أن أريك سلاحا أعددته للمجمعة؟ قلت: نعم، فأدخلني منزلا عنده فيه كتب كثيرة، وقال: هذا الذي أعددته للمجمعة).

وكثير من أهل العلم في زمن الإمام محمد، متوافقون معه، ويشكرون له صدعه بالحق، وتحمله عَنَت خصوم التوحيد، وكانوا يقولون- كما في المصادر-: نحن لم نستطع القيامَ بما قام به الإمام، من مواجهة المدعوين، والصبر على ذلك. وأما دعواهم أن بعض العلماء كَتَبَ مجلدات في الفقه ولم يتحدث فيها عن الشرك، فهذا لا يدل على عدم وجود الشرك، والمؤلفات في الفقه تختلف موضوعاتها عن التوحيد.

خامسا: قولهم: عن الإمام محمد إنه ذكر عن أحد البلاد أنه لا يوجد فيه شرك. نقول: لم يقل ذلك، وهذا دليل على تحريفهم لكلام الإمام محمد، وإنما قال ما نصه: (غارهم أن ما عندهم قُببٌ ولا سادات)، ومعلوم أن الشرك ليس محصورا بالقبب والسادات، فكيف يقولون إنه نفى وجود الشرك؟ هذا تَقَولٌ عليه، وتحريفٌ لكلامه، ثم لو فُرِضَ أنه لا يوجد في بلد معين شرك، فليس هذا دليلاً على انتفاء وجود الشرك في بلدان أخرى. وقد ذكر صاحب كتاب (الأعيان الخيار) وهو السيد الشريف الحنفي، المعروف بالعبجي، المتوفى سنة 1174 للهجرة أن الإمام محمداً برز نجمه في تطهير الدين من البدع والشرك والظلام المبين.

فهذه شهادة أحد معاصريه، تدل على انتشار الشرك -وهو شاهد عيان للواقع آنذاك- تتطابق مع ما ذكره الإمام محمد في كتبه، وما شهد به العلماء في زمن الإمام محمد، وما عرضه عليه خصومه من تسويغٍ للشرك، ومجادلةٍ عنه، وهذا مما يجعل شبهات المشككين المعاصرين تذهب جفاء، ولا تصمد أمام البحث العلمي المعتمد على المصادر الموثوقة.

سادسا: أما اعتذارهم عن أصحاب العقائد المخالفة، وأن ذلك لا يمس أسس العقيدة، فنقول: وما هي العقيدة عندكم؟ وما أسسها؟ بيِّنوها لنا؟ فالظاهر لي أنهم لا يعرفون العقيدة الصحيحة، بدليل أنهم يصرحون أن الليبرالية من صميم العقيدة، وبدليل أنهم يجعلون ما يورده الخصوم على الشيخ لا يمس أسسَ العقيدة، وبدليل أنهم يُعرِّفون التوحيد بالوحدة، والردة بالردة السياسية، وهذا تحريف وليس تعريفا.

ورحم الله الإمام محمد بن عبدالوهاب، فقد قال في كتابه "كشف الشبهات": (وسِرّ المسألة أنه إذا قال: أنا لا أشرك بالله، فقل له: وما الشرك بالله؛ فسِّره لي؟ فإن قال: هو عبادة الأصنام، فقل: وما معنى عبادة الأصنام؟ فسّرها لي، فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله وحده فقل: ما معنى عبادة الله وحده؟ فسّرها لي؟ فإن فسّرها بما بيّنه القرآن؛ فهو المطلوب، وإن لم يَعرِفه؛ فكيف يدّعي شيئاً وهو لا يعرفه؟! وإن فسّر ذلك بغير معناه؛ بُيّنتْ له الآياتُ الواضحاتُ في معنى الشرك بالله وعبادة الأوثان، وأنه الذي يفعلونه في هذا الزمان بعينه، وأن عبادة الله وحده لا شريك له هي التي ينكرونها علينا، ويصيحون كما صاح إخوانهم حيث قالوا: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ).

سابعا: انتقادهم الوقوف على ما قاله الإمام محمد في مسائل الاعتقاد بوصفه قيلَ لمرحلة خَلَتْ، دليل على جهلهم، ومقتضى قولهم أن نتجاوز ما كان يقوله النبي عليه الصلاة والسلام في مسائل الاعتقاد بوصفه لمرحلة خلت، ومعلوم أن الإمام محمد بن عبدالوهاب ما جاء بشيء من عنده، وإنما دعا إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثامنا: انتقادُهم لأئمة الدعوة -لكونهم لم يأخذوا السلطة في فترات السقوط، وأنهم يشابهون العلمانية في فصل الدين عن السياسة- دليلٌ على فساد تصورهم، ونظرتهم المادية، وإلا فهذا مما يُمدح به أئمة الدعوة وعلماؤها، فهم بايعوا الأئمة من آل سعود، ولا يمكن أن يتقدموا عليهم، ولا ينازعوهم في الأمر، وإنما يقاتلون تحت رايتهم، ويسمعون ويطيعون لهم، ويمنعون المرجفين والمُخذِّلين، ولولا الله -ثم نصرة آل سعود للتوحيد وأهله- ما عرف الناسُ محمدَ بنِ عبد الوهاب، ولا انتشرت دعوته المباركة، فالتعاون معهم هو ما تقتضيه الأدلة الشرعية، ولكن أصحاب الشبهات لا يعقلون، وإنما يأتون بشبهات ظاهرها زخارف من القول، وحقيقتها تهوينٌ من شأن التوحيد.