في كل المجتمعات هنالك المتشددون والمعتدلون، وهناك المارقون، كما وهنالك المائعون، فيقال شاب مائع أي مستهتر بلا قيم تحكمه ولا أخلاق، غير أن الغالبية في أي مجتمع لا هؤلاء ولا أولئك، إنما هم المتساهلون، والمتساهلون هم الذين لا يرون حرجا ولا غضاضة معظم الوقت، فدينهم يسر ومذهبهم تساهيل، يتابع أحدهم في التلفاز مشاهد غنج ودلال ساخنة فيردد "لا بأس"، يتسمر أمام مسلسلات الطلاق والخيانات والضرب غير المبرر فيردد "لا حرج"، يترك أبناءه للبرامج الطفولية غير الهادفة فيردد "لا مانع"، يحدث أمام عينيه أن ينتقي القيمون على الإعلام ثلة من المشاهير في الإسفاف ليقدموا أمامه الكثير من البرامج التي لا تحمل أي قيمة ومعنى فيتابع صامتا بلا اعتراض.

ومشكلة إعلامنا ليست في كونه يصب تركيزه على إشباع ذائقة المتساهلين، ويحاول جاهدا أن يعرض أمامهم أشهى الوجبات الإعلامية "الهايفة"، مشكلته أنه لم يعِ بعد أن كون هؤلاء المتساهلين لا يمانعون ولا يرون حرجا، فهذا لا يعني أبدا أنهم يرغبون ويتشوقون لمتابعة كل ما لا قيمة فيه، فكون المتساهلين متساهلين هذا لا يعني أبدا أنهم تافهون!

مثلا، أنا لا أمانع ولا أرى حرجا أن أتابع مسلسلا كوميديا درباويا فارغا، لكن هذا لا يعني أبدا أنني أرغب وأتشوق لمتابعة هذا المسلسل حتى الجزء السابع منه. لا أرى بأسا أن يعرض الإعلام مسابقات تشجع الأطفال على الغناء والرقص، لكن هذا لا يعني أنني سآخذ أطفالي إلى مراكز تعليم هز الوسط.. لا علاقة هنا بين كوني لا أرى بأسا في عرض التفاهة وبين كوني أتطلع لأن تكون التفاهة هي المادة الوحيدة التي يتبناها الإعلام.. وهذه مشكلة بعض وسائل إعلامنا، أنها تتعامل مع المتساهلين على أنهم تافهون، فتعرض أمامهم كل ما لا قيمة فيه ولا هدف منه، بحجة أنهم لا يمانعون.

لهذا يمكن القول إن معظم وسائل إعلامنا المرئي والمسموع لا هي بالإعلام الملتزم ولا بالخليع، ولا حتى بين بين، معظمها تائه بلا هوية ولا ملامح ولا قضية، لا يمثلنا كمجتمع ولا يمثل نقائضنا، لا يقف معنا ولا يقف ضدنا، لا هو بالذي أشبع ذائقة المتطرفين منا ولا المعتدلين ولا حتى المتساهلين فينا، كأنه إعلام موجه لمجتمع يعتنق أفراده مذهب اللامبالاة وعدم الاكتراث، رغم أننا مجتمع يكترث أفراده جدا، بل يكترثون لدرجة يصل فيها الاكتراث لحد الصخب، ومجتمع يصل فيه اكتراث أفراده لحد الصخب أمام الكثير من القضايا الرئيسية والثانوية وحتى الهامشية، هو مجتمع يستحق إعلاما له ملامح وقضية، يستحق إعلاما يقود كل هذا الصخب لا إعلاما يحاول إخماد كل صخب.

ومرة أخرى، كون الغالبية من المتساهلين فهذا لا يعني أنهم تافهون، كونهم لا يرون مانعا ولا حرجا في متابعة توافه الأمور، فهذا أبدا ليس شرطا كي يتخذ الإعلام من توافه الأمور مادته الأساسية. لا مانع أن يعرض علينا الإعلام مشاهد رقص وغنج ودلال بين الفينة والأخرى، لا بأس ولا حرج أن نتعلم إعلاميا شيئا عن مبادئ العشق والغرام وأساسيات الوله، لكن البأس كل البأس ألا يجد إعلامنا ما يعرضه علينا إلا كل ما لا نرى فيه بأسا وغضاضة، أن تكون وجبته الدسمة عبارة عن مواد غير هادفة ومجرد مشاهد غنج ودلال وعمليات عشق وغرام مصطنعة، الإشكالية هنا أن وجبة إعلامنا الدسمة هي بالنسبة لنا وجبة خالية من الدسم، لا تنمي فينا العقل ولا المعرفة ولا الذوق، ولا تحض على إيمان. هذه الوجبة الإعلامية اليومية لا هي بالتي ساعدتنا على الاعتدال، ولا هي بالتي تركتنا معلقين بين الرسالة الهادفة والإسفاف!