ككل مدن العالم وقراه، كانت الحياة في التجمعات الحضرية في المملكة تحيا في إطار طبيعي يتناغم مع البيئة في تجانس متمازج. وظل الأمر كذلك حتى بدأت مفردات التطور الصناعي العالمي ومبتكراته في الوصول إلينا، وكان أكثرها تأثيرا اختراع السيارة التي صنعت من البعد غاية، ومن متطلباتها شكلا جديدا للمدن. وقد تدرج التأثر وبقيت المدن مترابطة الأجزاء زمنا، ثم ابتدأ التأثر طرديا مع زيادة عدد السيارات والاعتماد عليها.

ربما كان شكل المدن عندنا سيكون أكثر عناية بالإنسان لو ابتدأنا الآن مراحل التطور، مستفيدين مما مر بالعالم من تجارب أغرقت مفرطة في المدنية المصطنعة، ثم تنبهت فعادت ما استطاعت إلى البحث عن مدن ذات روح بعد أن أفسدت كثيرا من مدن العالم، إلا أن ذلك لم يكن ممكنا بطبيعة الحال. وأسهم عدم وجود قدرات محلية في مجالات العمران في الاستناد إلى ما كان موجودا من أفكار تخطيطية، لعل أبرزها ما جرى لها من تأصيل في المخططات الشاملة لكبريات المدن على أيدي دوكسيادس وروبرت ماثيو وغيرهما.

كانت الرياض كما أحسب، أكثر عرضة لمفاجآت التطور، وكان عليها في كثير من مراحل نموها أن تستعجل في قبول الجديد وتبعاته. وكان انتقال الوزارات إليها عام 1377 الخطوة الأكثر تأثيرا على نموها العمراني. وقد سارت التنمية بخطوات حثيثة تأخذ الإنجاز التطويري هدفا أساسيا للاستجابة لحاجات الناس ومتطلباتهم من مرافق وخدمات، خاصة مع ما يسره تزايد إيرادات النفط من عوائد انعكست بشكل إيجابي على تحقيق ما يمكن. وكان البعد عن القديم وإن لم يصرح به، هدفا خفيا ساهم في القناعة أكثر بالانبهار بالنمط العمراني النموذجي الحديث.

استغرقت مراحل التنمية في مدينة الرياض سنوات طويلة، أسهم فيها العديد من الأمناء تحت إشراف مباشر ومتابعة حريصة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، الذي شرفت به منطقة الرياض كأمير لها لأكثر من 50 عاما. وكانت التنمية البلدية والإيفاء بمتطلباتها التقليدية هما الهاجس الأكبر للأمناء الذين بحكم طبيعة عملهم من أقل المسؤولين حظا برضا الناس مهما أحسنوا. وفي عام 1418 تم اختيار الأمير عبدالعزيز بن عياف أمينا للرياض. وكان ذلك الاختيار مثار تساؤل الكثيرين وقتها، ذلك أن الأمين الجديد جاء من خلفية أكاديمية بحتة من عمله أستاذا في كلية العمارة والتخطيط بجامعة الملك سعود، دون أي تجربة عملية خاصة في المجال البلدي. وابتدأ الأمين عمله وسط بعض الرهان، على مدى ما يمكن أن يحققه من نجاح ربما عجز عنه بعض ممن تميزوا بخلفية عملية بلدية.

تعد البلديات والأمانات أكثر الجهات التنموية علاقة بالمواطن، وقد حدد النظام الذي صدر منذ عقود مجال عملها بشكل ربما كان مناسبا لتلك المرحلة. ولم تتطور الأنظمة رغم تطور مفهوم العمل البلدي وتطور معرفة الناس بمتطلباتهم وحتى حقوقهم في المجالات العمرانية. وقد جاءت بداية الأمين عبدالعزيز بن عياف في مرحلة فائقة التوقعات من الأمانة من حيث توفير وتطوير الخدمات. ولعل منهجه أمينا في تجاوز التقليدية في العمل ونظرته إلى جانب ربما عدّهما البعض ترفا، وعدهما آخرون خروجا عن الفرض إلى النافلة. كان إضافة الاعتبار الإنساني في المدينة هما أضافه الأمين إلى أعبائه، وهي مهمة لم يكن ليحاسبه عليها أحد إذ ليست، كما هو معلوم، ضمن مسؤوليات العمل البلدي الرسمية.

ابتدأ الأمين الجديد العمل على عدة جبهات، وتحديدا ثلاث، الأولى داخل الأمانة بتطوير الجهاز الفني والإداري وقدراته ومفهوم عمله وحماسه، والثانية الإيفاء بمتطلبات العمل البلدي المتعددة والعسيرة وتقديمها بأفضل ما يمكن، أما الثالثة فكانت تقديم نقلة فكرية تضيف إلى الرياض بعدا تستحقه ويستكمل منظومتها التنموية. وبالتدريج أصبحت الرياض حاضرة يأخذ الإنسان فيها بعض اعتباره المأمول. وأصبح وجه الأمانة أكثر بهاء وثقة أمام سكان الرياض الذين تدين لهم بتقديم الأفضل. وصار بالمدينة شبكة ممرات مشاة آمنة أنيقة، واحتفاءات بالمناسبات الدينية والوطنية بشكل راق، ومهرجانات ترسم البسمة بالفرح والرضا، وحضور مسرحي متنوع ربما عجزت عنه الجهات المعنية بالثقافة والأدب، وساحات بلدية تستقطب كل أفراد العائلة وخاصة الشباب، وخدمات ترويحية لذوي الاحتياجات الخاصة، عدا عن إصدارات فكرية بمستوى علمي عال تعنى بتاريخ المدينة وتراثها وبيئتها. وغني عن القول إن تلك الجهود والمبادرات ما كان لها أن تكون لولا تلك العناية والثقة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، أمير منطقة الرياض آنذاك.

كتب أحد الصحفيين مقالا في صحيفة شهيرة تصدر خارج الرياض قبل سنوات يأسف أن مدينة كانت إلى الفرح أقرب وإلى المباهاة بجمالها وخدماتها على الرياض لم تعد كما كانت. ودعا بصدق لأن يقرأ المعنيون بالعمل البلدي الميثاق الذي وضعه أمين الرياض وقتها على نفسه لتكون مدنهم بعضا مما استطاعت الرياض. ولعل الكاتب لم يدرك أن بعض ذلك كان من قناعة الأمين أن الإنسان لابد وأن يكون غاية كل تنمية، وهو ما كان السمة الأبرز لمسيرة الرياض خلال السنوات الماضية.

أعلنت وزارة الشؤون البلدية والقروية مؤخرا عن تفعيل الأنشطة الثقافية والترويحية في المدن السعودية، عبر حزمة من الفعاليات الترويحية والاجتماعية، تحت شعار "أنسنة المدن". ومع أن الخبر قد مر مرور الكرام إلى حد بعيد، إلا أنه يحمل أبعادا مهمة أرجو أن تكون مقصود، وأن يكون الحديث عن الأنسنة إيمانا بجدواها وبناء على نجاح التجربة التي سبقت إليها الرياض، وتأصيلا لهذه المفردة كأحد الجوانب التي لا بد أن تكون ضمن أوليات العمل البلدي. ومن المهم أن تراعي تلك الخطوة الأبعاد الخاصة بكل منطقة، وأن تكون الخطوة ذات بعد تطويري يأخذ بالمفهوم الشامل للبعد الإنساني، لا بما تم تنفيذه من مفردات فقط، قال عنها الأمين الأمير عبدالعزيز بن عياف إنه رغم نجاحها ما زال بالإمكان أفضل وأكثر.. وأجمل!