خلال انشغال العالم المسيحي باحتفالاتهم، تناقلت الأجهزة الذكية رسالة تتحدث عن احتفالات الأعياد في أيسلندا.
تداولت هذه الرسالة الواتسابية بإعجاب، تقليدا يتبناه الأيسلنديون أسماه المعجبون (فيضان الكتب)، إذ يتبادل أفراد هذا الشعب الكتب والشوكولاته في ليلة الميلاد، ثم يقضون ليلتهم مسترخين يتنقلون بين التلذذ بالقراءة والتلذذ بالشوكولاته!
جاءت الرسالة متبوعة بالبكائيات المعهودة عن مجتمعنا، وأن بيننا وبين هذه المجتمعات سنين ضوئية في الحضارة والثقافة وتقدير الكتب، إذ يرى مروِّج هذه الرسالة أننا لا نجتمع للأسف إلا حول موائد الطعام. ولا أدري حقيقةً هل قضى من روّج لهذه الرسالة موسم الأعياد في جزيرة أيسلندا وشهد بعينه هذه الممارسات الثقافية؟ لأني لم أجد مصدرا أيسلنديا رسميا يدعم ما تذكره هذه الرسالة! أو لعل هذا التقليد -إن وجد- تمارسه قرية من القرى مثلا أو عائلة معينة في مدينة محددة؟ لأن لبعض القرى والأسر تقاليدها الخاصة كما نعرف، وتعميمها على شعب كامل سذاجة بالغة. إن من قضى جزءا من حياته في الغرب، يعرف أن إجازاتهم العائلية غالبا ترتبط بموسم الميلاد، ويعرف أن تقاليد احتفالاتهم بالميلاد تتضمن إضاءة الأنوار الخاصة طوال شهر ديسمبر، ثم قضاء الشهر في إرسال بطاقات المعايدة للمقربين الذين يعيشون في مدن مختلفة وتبادل الهدايا مع الأهل والأحباب، والرد على هذه البطاقات، ثم اجتماع الأسرة حول عشاء ليلة الميلاد.
يذكر بعض الأوروبيين أن جزءا كبيرا من هذه التقاليد لا علاقة له بميلاد المسيح، بل يرتبط أكثر بمواسم تساقط الثلج، وازدادت مظاهره مع التأثر بالثقافة الأميركية، لكنهم يستمتعون بهذه التقاليد، ويسترجعون معها ذكريات الطفولة والفرح، لذلك يتمسكون بها ويعتبرون هذه الفترة كل عام فترة عائلية بامتياز.
من الجيد بلا شك أن نحرص على معرفة عادات وثقافات الآخرين، وأن نتبنى ما يناسبنا منها، لكن تمرير هذه الرسائل المكررة المحشوة بالمقارنات المتكلفة مع عاداتنا وثقافاتنا، يؤدي إلى غرس الدونية والانهزامية في عقول وأرواح النشء الذين نعدّهم لبناء المستقبل، ومن يشعر بالدونية والانهزامية لن يحقق أي إنجاز لا على الصعيد الشخصي ولا العام.
إن الدعوة إلى تبني الممارسات الجيدة الموجودة عند الشعوب الأخرى دعوة محمودة، فالحكمة ضالة المؤمن، وهو أولى الناس بها، لكن تغاضي البعض المتعمد عن ثقافتنا ومكونات حضارتنا وعدم الترويج لها بشكل بنّاء ومثمر بين أبنائنا، مع التركيز على مميزات الثقافات الأخرى وغضّ الطرف عمدا عن سلبيات ثقافتهم، سيهزم ثقافتنا في عقول وقلوب أبنائنا، والمهزوم داخليا لا ينتصر في أي مواجهة.
لذلك، أرجوكم يا معشر البكائين على الفجوة الثقافية بيننا وبين كل شعوب العالم، يا من وصلتم في بكائياتكم إلى أيسلندا التي ليس لها أي حدود برية مع أحد، لا تملؤوا عقول الأجيال الجديدة بالانهزامية، فلا يوجد شعب ملائكي على ظهر هذا الكوكب، والتاريخ يشهد أن الثقافات والحضارات مثل البشر لا هم ملائكة ولا شياطين، وبأن لكل ثقافة -كما القمر- جانب حالك من السواد. ?