عادة لا يستفز الحديث عن الضيافة اعتراضات المستمعين، بقدر ما يستفز ذاكرتهم لإيراد المزيد من الشواهد والأمثلة. لذا عرضت ورقة عن الضيافة في حلقة الرياض الفلسفية بحثا عن رؤى نقدية. لم يخب ظني وخرجت بعدد من الأفكار النقدية التي أخطط لمناقشتها والتفكير فيها ومعها. إحدى تلك الأطروحات النقدية كانت حول مدى "عملية الضيافة". بمعنى هل الضيافة خيار عملي يمكن التعويل عليه في حل كثير من المشاكل الاجتماعية، مقارنة بمفاهيم أخرى كالتسامح والتعايش السلمي. هذا الاعتراض قدمه الصديق الدكتور عبدالرحمن الحبيب، وهذه صيغة مقترحة للاعتراض: "الضيافة فكرة غير عملية لأنها تستحث الشعور النبيل لدى الإنسان، وتلك لا يعوّل عليها في تغيير السلوكيات، خاصة وقت الأزمات حين يفكر الإنسان في مصلحته. بينما فكرة التعايش السلمي عملية، لأنها تقول للمرء إن من مصلحته قبول التعايش السلمي مع الآخر".

الفكرة هنا تبدو لي كمقارنة بين الضيافة والتعايش السلمي/ التسامح في تقديم حلول لحل كثير من المشكلات الاجتماعية التي تواجه الشعوب، مثل مشاكل اللجوء بسبب الحروب، الهجرة وحقوق المهاجرين، الإرهاب والتطرف الديني والوطني. التسامح والتعايش السلمي أكثر عملية لأنها لا تراهن على الكثير. الرهان فقط على مصلحة الأفراد الشخصية وهذا مضمون ومتوفر، باعتبار أن كل فرد حريص على مصلحته. الفكرة هنا تذكرني بأطروحة جون رولز في الحالة الأولى التي يتم من خلالها تصميم العقد الاجتماعي ووضع بنوده. يضع رولز المتعاقدين خلف ما يسميه بـ"حجاب الجهل"، بحيث لا يعلم المتعاقدون تماما موقعهم من التقسيمات الاجتماعية، فلا يعلم الفرد هل هو غني أم فقير، رجل أم امرأة، أقلية أم أغلبية، ولكنه يعلم في الآن ذاته أن الجماعة ستحتوي أغنياء وفقراء، رجالا ونساء، أغلبية وأقلية... إلخ. المطلوب منه أن يشارك في وضع شروط لحياته المستقبلية مع الآخرين في هذا المجتمع. بحسب رولز فإن المتعاقدين سيفكرون انطلاقا من حسبة ذاتية محافظة تحاول ضمان الحد الأدنى من الحقوق .Risk Averse هذه الحالة تجعلهم يضمون الحد الأدنى من الحقوق المتساوية للجميع تحسبا لاحتمال أن يقع الفرد منهم ضمن الجماعة الأقل حظا. لا نحتاج هنا إلى أن نتصور الناس في حالة مثالية لتصور قدرتهم على التعايش المشترك. يكفي أن نراهن على الحد الأدنى، بدلا من الدخول في رهانات على الطبيعة الخيرة جدا للإنسان والتي لن تصمد خصوصا في الأوقات الصعبة.

شخصيا أعتقد أن الكلام أعلاه معقول جدا ولا أعترض عليه بقدر ما أريد أن أضيف إليه. شخصيا لا أعتقد أننا أمام خيار واحد وهو الاختيار بين الضيافة أو التسامح. أعتقد أن المعنيين مهمان معا على مستويين أساسيين: المستوى القانوني والمستوى الأخلاقي. دائما نحتاج إلى قانون وتنظيم اجتماعي يراهن على الأهداف العملية المباشرة، كما نحتاج إلى أفق أخلاقي يدفع هذا القانون باتجاه المزيد من العدالة والرحمة. الضيافة فعلا ليست مفهوما سياسيا بالمعنى الدقيق للكلمة، كما هو مفهوم التسامح أو التعايش السلمي، ولكنها يمكن أن تعمل باتجاه دفع التسامح للمزيد من التسامح، باتجاه فتح آفاق أوسع للآخر. التاريخ التشريعي للقوانين يعطينا شاهدا على هذا.

في كثير من الدول تصمم منظومة الحقوق على تصور أولي للذات والآخر. مثلا كان التأسيس الأولي للدستور والفضاء الحقوقي الأميركي انطلاقا على تصور معين لمن هم الأميركيون في ذلك الوقت. التاريخ يخبرنا أن ذلك التصور لم يكن شاملا للجميع. عمليا لم تكن الحقوق المتساوية تشمل السود ولا المرأة. مع التاريخ كانت منظومة الحقوق تواجه بآخر جديد لم يكن في الحسبان منذ البداية: الضيافة هي هذه الطاقة التي تدفع بالمزيد من الترحيب والرعاية للآخر. الضيافة هي التي تدفع المجتمع لفتح مفهومه الحقوقي للمزيد من العدالة. الحسابات الحقوقية استغرقت الكثير من الوقت لإدخال المرأة والسود في منظومتها. اليوم تواجه فئات أخرى في المجتمع على مستوى الجماعات الجنسية أو العرقية أو جماعات المهاجرين. الضيافة كذلك تدفع بمفهوم الحقوق ليتجاوز الحدود الوطنية ليشمل العالم. الرهان هنا ليس على المصلحة الشخصية، بل على جانب أساسي وغير متوهم موجود في الإنسان وهو انتماؤه لأخيه الإنسان ورغبته في خدمة الآخر ورعايته.

من يشاهد اليوم أعمال التطوع على مستوى العالم يعلم قدرة هذا الجانب في البشر على القيام بأعمال ضخمة هدفها رعاية الآخر. الضيافة لا تدعي أن الإنسان خيّر دائما، ولكنها تدعي أن هناك جانب خيّر حقيقي في الإنسان.

الفكرة الأساسية هنا أننا فعلا نحتاج للمفاهيم السياسية للعدالة والحقوق، ومن أهمها مفاهيم التسامح والتعايش السلمي. ولكننا أيضا نحتاج للطاقة الأخلاقية التي تدفع تلك المفاهيم للمزيد من العدالة والحقوق. هذه الطاقة الأخلاقية التي أسميها الضيافة تقوم بمهمة جوهرية وأساسية وهي الإبقاء على مفاهيمنا الحقوقية مفتوحة ورحبة للمزيد من الآخرين. التاريخ يخبرنا أننا في رحلة لا منتهية من استضافة الآخرين، الضيافة تربك مفاهيم الذات والآخر وتيسر دخول المزيد من الآخرين للمشهد. المجتمعات اليوم أمام مهمة أساسية لإدراك تنوعها. هذا التنوع يزداد مع توفر وسائل التعبير لجماعات لم تمتلك فرص التعبير طوال التاريخ. هذه الجماعات تتوالد بشكل مستمر. كل هذه الحركة تدفع مفاهيمنا للتسامح والتعايش للمزيد من الانفتاح والقبول بالآخر: الضيافة هي طاقتنا الأمثل للعناية بهذا الآخر والاحتفاء به ورعايته. سيكون من غير العملي جدا عدم الاستفادة من تلك الطاقة.