في زحمة الحديث عن القمة الأطلسية التي شهدتها العاصمة البرتغالية يومي 19 و20 نوفمبر المنصرمين نسي الجميع تقريبا قمّة أخرى كان يُفترض أن تنعقد في مدينة برشلونة الإسبانية يومي 20 و21 من نفس الشهر، وهي قمّة الاتحاد من أجل المتوسّط. هذه القمّة تأجّلت، وبدقّة أكثر منع أفق فشلها الواضح للعيان انعقادها.

للتذكير هذا هو التأجيل ـ الفشل الثاني في عقدها. وللتذكير أيضا كان الرئيس الفرنسي نفسه قد أعرب يوم 27 سبتمبر الماضي عن رغبته في أن يسهم الاتحاد من أجل المتوسّط بدور أكثر فاعلية في مسيرة السلام بالشرق الأوسط ؛ هذا ليس دون أن يدقق القول بأن دور الولايات المتحدة الأميركية "لا يُستعاض عنه". وأعلن في نفس المناسبة أنه ينبغي عقد القمّة "مهما حصل".

كان ذلك الحماس كلّه في سياق اللقاء "التحضيري" في باريس الذي كان الرئيس الفرنسي قد أعلن عنه مع الرئيس المصري حسني مبارك والرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو. ذلك اللقاء لم يتم ،إذ أعلنت إسرائيل "تأجيله" في منتصف شهر أكتوبر الماضي في الوقت نفسه الذي كانت تؤكّد باريس فيه أنه لم يتم اتخاذ أي قرار بشأن انعقاد، أو عدم انعقاد، اللقاء الذي دعت إليه.

من الصحيح القول إن الاتحاد من أجل المتوسّط قد عانى من الأزمات منذ "ولادة" فكرته بمبادرة من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي عشيّة انتخابه رئيسا للجمهورية عام 2007 باسم "الاتحاد المتوسطي"، ثم انطلاقه "رسميا" بما يشبه العرس الإعلامي من باريس يوم 13 يوليو ـ تمّوز عام 2008 .

كانت الأزمة الكبيرة الأولى للمشروع هي مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي أكّدت رفض تمويل مشاريع الاتحاد من أجل المتوسط بأموال أوروبية، بل ورأت فيه تهديدا مباشرا وعميقا للبناء الأوروبي عبر إحياء المنطق القديم لاقتسام مناطق النفوذ. وكان الحلّ الذي رضخت له فرنسا هو اعتبار أن مصالح الاتحاد الأوروبي ككل هي التي تحكم علاقته مع الكيان الجديد بعد تغيير تسميته إلى "الاتحاد من أجل المتوسّط".

وأزمة أخرى واجهت فكرة المشروع أساسا من حيث تأكيد دور تركيا المركزي فيه كبديل عن طموحاتها في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. السلطات التركية رفضت العرض شكلا ومضمونا واعتبرته مجرّد "جائزة ترضية" لا ترقى أبدا إلى طموحات مشروعها السياسي في أن تكون دولة أوروبية كاملة الحقوق وعضوا فعّالا في الحلف الأطلسي وقوّة في الصفّ الأول بين دول العالم الإسلامي.

لكن تبقى الأزمة الجوهرية، والقاتلة، للاتحاد من أجل المتوسط هي تلك المتعلّقة بقضية السلام في الشرق الأوسط. وإذا كان البعض قد اعتقدوا في البداية أنه يمكن تجاوز هذا الملف، وغيره من التحديات السياسية، عبر تنشيط التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري الحر وما سيرافقهما من مشاريع مشتركة فإنهم اصطدموا سريعا بحقيقة أن السياسات الإسرائيلية المعطّلة لمسيرة السلام هي التي تعطّل في الوقت نفسه إمكانية تقدّم الاتحاد من أجل المتوسط، بل هي علّته الرئيسية.

وليس سرّا على أحد أن تأجيل القمّة "المتوسطيّة "الأولى التي كانت مقررة في 7 يونيو الماضي كان بسبب العدوان الإسرائيلي الشرس على غزّة وما تلاه من حصار عليها. وتأجيل القمّة للمرّة الثانية قبل أيام ليس بعيدا كذلك عن السياسة الإسرائيلية حيال الاستيطان ومفاوضات السلام.

وفي مواجهة مثل هذه السياسة رفض العديد من رؤساء بلدان جنوب وشرق المتوسط الجلوس حول طاولة مشتركة مع بنيامين نتنياهو ووزير خارجيته أفيجدور ليبرمان. ثمّ إن أي تنازل في هذا الموقف بدا معادلا بنظر الأغلبية الساحقة في العالمين العربي والإسلامي كعملية "غدر" حيال الفلسطينيين.

المؤكّد هو أن المسؤول الأول والأكبر عن كبح تقدّم الاتحاد من أجل المتوسط هو الصراع العربي ـ الإسرائيلي. ويزداد انسداد الأفق أمامه بما يعرفه من منافسات سياسية، وعلى المناصب، بين أعضائه. وهناك أيضا واقع أن المشاريع الهامّة المقرّة في مجالات الطاقة الشمسية ومكافحة التلوث البحري وإنشاء شبكة من الطرق تصل بين ضفتي المتوسط لا تتقدّم أبدا، بل إنها قد تفقد، بسبب الأزمة المالية، مصادر تمويلها الأوروبية بعد عام 2012.

وفي محصلة هذه الأمور كلّها قد لا يكون من المبالغة القول إن "الاتحاد من أجل المتوسط" الذي أطلقه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في عام 2008 وأراد له أن يكون أحد النقاط البارزة في دبلوماسيته يعاني من أكثر من علّة، بل هو بين الحياة والموت.