لقد كانت لحظة فارقة جداً عندما شاهدت إحدى تلميذاتي -وهي إيناس البار- تتفوق على نفسها في نشاط ما، ثم توضح سبب هذا التفوق بقولها إن السبب في ذلك هو مساحة الحرية التي منحتها لها أنا.
تركتني الطالبة ذات الـ17 عاماً وحدي مع جملتها ومضت.. وقفت وحدي في الفصل أمسح السبورة النظيفة مرات، وأفكر: هل منحتُ تلميذاتي ذات القدر من الحرية التي دفعت إيناس للتميز؟ بل هل نلت أنا نفسي الحرية أو جزءا منها لأتميز؟
مرت بذاكرتي ثلاث مشرفات لم أحصل على غيرهن لمحدودية السنوات التي قضيتها في التعليم. هؤلاء الثلاث دافعن عن حريتي كثيراً، ورفضن كل شكوى كيدية قدمت ضدي، بل رفضن حتى نقاشها، وكنت أشعر بحيائهن وهن يسألنني عن شيء أعرف أنه وصلتهن شكوى حوله، ولا يردن أن يجرحن كرامتي كمعلمة، وكنت حساسة جداً فيما يخص مسؤوليتي عن تلميذاتي وما أقدمه لهن.
كنت أعرف أن معلمة من زميلاتي اشتكت لإدارة التعليم من أن طالبات الصف الثالث الثانوي واللواتي كنت أدرسهن أصول الفقه يبحثن في المكتبة عن مذاهب الفقهاء في مسائل النمص وكشف الوجه والولاية في النكاح.
في الحقيقة لم تواجهني مطلقا، وإلا لكنت سألتها ما الذي قد يخيفها من أن تبحث الطالبات عن معلومات في كتب موجودة في مكتبتهن التي هي أصلا لا يوجد بها كتاب مرفوض من الوزارة؟ أين المشكلة في أن تتعرف الطالبة على حكم مختلف عما يوجد في كتب الفقه؟ أين المشكلة أن يبحث الشباب عن الحقائق؟
لم يستجب أحد لشكواها تلك، لأنه كان هناك دائما واحدة من هذه السيدات الثلاث اللواتي اقتنعن دائماً بأن الحق لا يؤذي أحدا.
كانت المناهج مليئة بما أرفضه، لكن شيئا في داخلي كان يقول يجب أن يكون المعلم محايدا، وأن يترك تلميذه يختار ما يؤمن به، لذا في تلك المناطق الخطرة كنت أضع خطاً أحمر، ثم أقول للطالبات سنحصل على حصص احتياط، ونذهب إلى المكتبة لنفحص ما كتب في غير الكتاب المدرسي، وكن -أي الطالبات- يأتين بعد رحلة المكتبة وكل واحدة بتصور مختلف، بعضهن يؤيد الكتاب المدرسي، والبعض كان يرفضه تماما، والبعض يضع شروطه ولم يسمعن أبداً رأيي.. كنت أحتفظ به لنفسي، ربما حتى لا يتم تقديم شكوى ضدي، وربما لأنني أردت أن يتذكرن ما خلصن إليه هن لا معلمتهن.
مضى على ذلك عمرـ سنوات عديدة ـ نسيت الكثير فيها عن الأصول والفقه حتى أرسلت لي طالبة من طالباتي في "تويتر" هي لجين الشابحي رسالة ذكرتني بما مضى لتستوقفني جملة من حديثها قالت فيها "كنت أقرأ لأثبت لك وجهة نظري وشعرت بسعادة بالغة، لقد كنت أدفع طلابي للقراءة". ثم وجدتها تقول "كنت تلقين الفكرة وتتركينا نسبح في خيالنا لنبحث بعقولنا عن حل".
هل فعلت ذلك حقاً؟ هل دربت هؤلاء الصغيرات على التفكير؟ إذا كان كما قالت لجين فقد نجحت، وأنا فخورة بهن وبما فعلت. هل هناك أكثر فخراً من أن تدفع الشباب للقراءة والتفكير؟ لا أظن.