ماذا يعني أن تكون بلداً إسلامياً، هل يعني ذلك أن نورط المتحمسين بقافلة كقافلة مرمرة نرسلها إلى غزة ثم نقبل الاعتذار الهاتفي ونعيد العلاقات مع إسرائيل؟ هل يعني أن نقع في سذاجة الإخوان المسلمين عندما اختاروا السيسي وزيراً للدفاع لمجرد أنه ضابط زوجته محجبة، وافتتنوا بإردوغان كحليف استراتيجي لأن زوجته محجبة أيضاً، وهل الحجاب هو العلامة الدالة على أن الإسلام بخير؟ أم أن الدليل هو سلامة العقول التي تحت هذا الحجاب من الجهل والأمية، وسلامة الشعوب الإسلامية من القتل والتشريد على الهوية والطائفة والعرق.
ما دعاني لهذه التساؤلات هو استعادتي لحلقة كاملة من النقاش بين يوسف القرضاوي وصادق جلال العظم وبينهما فيصل القاسم في حلقة عن العلمانية، وكانت الحلقة في (الاتجاه المعاكس) قبل عقدين تقريباً، ومن المفارقات في هذه الحلقة القديمة عرض صادق جلال العظم لتركيا كنموذج اقتصادي سيزدهر في المستقبل واعتراض القرضاوي على نجاح النموذج التركي، ممتدحا جمهورية إيران (الإسلامية)، المفارق في الموضوع أن هذه الإشارة من صادق جلال العظم إلى مؤشرات النمو في تركيا، وما صارت إليه تركيا الآن، أكدت لي أن الازدهار الاقتصادي هو عمل مؤسسات وخطط طويلة، قطفها إردوغان وحزبه، فالنمو الاقتصادي أكثر تعقيداً من مجرد زعيم حزب يكسب وزعيم حزب يخسر، حاكم يأتي وحاكم ينصرف، حاكم يمنح، وحاكم يمنع، إنه عمل مؤسسات وطموح شعب، وسيأتي حاكم آخر بعد إردوغان ليكمل مسيرة الديمقراطية التركية، ولهذا كانت الأحزاب العلمانية المعارضة في صف تركيا ضد الانقلاب، وخسر فتح الله كولن رهانه في (أسلمة تركيا)، فتركيا قد تلبس عباءة الخليفة العثماني كتاريخ، لكن قلبها سيبقى نابضاً بكمال مصطفى أتاتورك كواقع، هكذا قرر إردوغان إنهاء الصفقة القديمة مع فتح الله كولن، التي تشبه في نظري ـ مع فارق الجغرافيا والتاريخ وكثير من التفاصيل الشخصية والعامة ـ الوضع الذي كان بين البشير والترابي.
يبقى السؤال لماذا عجز الإسلاميون عن إقامة دولة وفق نظرياتهم المكتوبة؟ السبب ببساطة أن التطبيق الحرفي لمدوناتهم سيطرح نموذج طالبان، أو على الأقل مشروع البغدادي في دولة داعش، ولا يمكن بأي حال من الأحوال إنزال النظرية الإسلامية في الحكم (إن وجد هناك نظرية) دون الأخذ بمعطيات التجربة الإنسانية الحديثة في الحكم، من فصل للسلطات، فحتى إيران ليس لها علاقة بحكاية (إسلامية) على المستوى الحكومي إلا في مظاهر القمع على يد الشرطة الدينية، أما على المستوى الشعبي فإيران عرفت الإسلام والمساجد منذ القرن الأول للهجرة النبوية.
أما الجزيرة العربية فقد عرفت الحنيفية قبل ذلك، منذ دعوة أبينا إبراهيم منذ كانت الكعبة قبلة للعرب، وأضاءت بميلاد نبيها الكريم، ولهذا فلا يوجد في جزيرة العرب وعموم العالم في عصرنا الحديث دولة أقل إسلاماً من دولة أخرى، فيوم القيامة يحشر الناس أفراداً حفاة عراة، ولا يحشرون دولاً، ولهذا أنكر كثير من العارفين كلمة (دولة إسلامية)، وتبقى الرغبة في العدل والكرامة والرفاه والأمن طموح شعوب الدنيا بكل دياناتها مما جعل أحد الفقهاء الأوائل يقول: (حيث ما كان العدل فثم شرع الله)، كل هذا مقرون بعقدةٍ لم يستطع تجاوزها الإسلاميون وكانت تنفلت من فم القرضاوي أثناء المناظرة من حين إلى حين، عندما كان يطرح مسألة الدولة، فالشعب فيها عنده خادم للدولة، بينما المفاهيم الديمقراطية الحديثة تشير إلى أن الدولة خادمة للشعب، ولهذا فموظفو الجهاز الحكومي ليسوا سوى منفذين لطموحات وآمال الشعب، فالشعب هو (مصدر السلطات)، وما عدا ذلك فجبرية باسم الدين، وولاية فقيه بعمامة سنية أو شيعية لا فرق، الفرق في المستبد الخالد، لونه ولغته وعقده النفسية، التي يحيلها الشعب المسكين إلى صفات استثنائية، فتلعثمه أناة وحكمة، وتهوره شجاعة وإقدام، فصدام حسين حارب إيران، صدام حسين احتل الكويت، صدام دخل الخفجي السعودية، صدام حسين قتل الأكراد السنة، صدام حسين قتل كل معارض سني أو شيعي، صدام حسين مستبد إلى أقصى شريان في قلبه، أما إردوغان فيبقى حاكما تركياً يخدم شعبه، فيتصالح مع إسرائيل ويتعاقد مع إيران ويتصافى مع السعودية، ويصرخ بالوحدة الإسلامية، ويناور ليكون جزءا من الوحدة الأوروبية، ويعانق روسيا، ويناور مع أميركا، كل هذا لأنه فرد في مؤسسة تخدم الشعب التركي بكل أعراقه، وفي ذلك مساحة للمناورة تجعله يضغط كبرياءه الشخصي لصالح تركيا، فيعتذر إن لزم الأمر من روسيا، ويقبل الاعتذار في حادثة مرمرة إن لزم الأمر من إسرائيل، ما تقتضيه مصلحة تركيا سيفعله إردوغان، وليس ما يقتضيه الغرور الشخصي والكبرياء الفردي الخاص، ولهذا فتركيا بعيدة جداً أن تقع في حماقات صدام حسين، فالمؤسسات الحكومية لا تواجه خطر الغرور الفردي، فحتى أميركا بعظمتها بلد المؤسسات انسحبت من فيتنام، وتركت الصومال، لأن الكبرياء الأميركية كبرياء مؤسسات، وليست كبرياء فرد يعاني من عقد شخصية يتورط بها شعب كامل.
قبل أن أنسى: ذكر القرضاوي في ختام الحلقة العتيقة التي أشرت لها في أول المقال أن المستقبل للحركات الإسلامية، وذكر صادق جلال العظم أن علماء المستقبليات يقولون إن المستقبل سيكون للشرق البوذي والغرب العلماني، فرجوت الله من قلبي ألا يكون ما بينهما مجرد جهل وأمية وفقر وتشرذم وحروب طائفية.