كثيرا ما يكون هنالك جانب مخفي أو غائب في أي تشريع أو قرار، وهو ما يجب أن يُبحَث عنه من أجل إبرازه ووضعه على طاولة البحث والمناقشة، أما الجانب المرئي من الجميع فلا حاجة لإعادته وتأكيده إلا حين يكون الناس منقسمين إزاءه بين القبول والرفض، ولا أعتقد أن الناس سيختلفون من حيث المبدأ حول أهمية "برنامج حساب المواطن"، لكنهم قد يختلفون في التفاصيل، ولذلك نصحني أحد الأصدقاء بألا أكتب عن هذا البرنامج قبل أن تتضح الرؤية بشكل كامل، فقلت: لا عليك يا صديقي، فنحن نختلف من أجل الوطن لا عليه، وحين يتعلق الأمر بالداخل فلنختلف ما شاء الله لنا أن نختلف، لكن عندما يتعلق الأمر بعدو خارجي فكلنا مع الوطن بلا شروط ولا تبرير أو تردد.

أعترف أن الحديث عن هذا البرنامج سابق لأوانه، ومن الصعب الإحاطة بكل ما يتعلق به أو إعطاء تصور نهائي عنه، خصوصا أن عددا من المصطلحات الواردة فيه يصعب تحديدها، فأنا مثلا لا أعرف معيار الفصل بين الطبقة محدودة الدخل وغيرها من الطبقات، ولست أدري فيما إذا كانت الأرقام الواردة في تقسيم الشرائح هي المعيار في ذلك أم لا، فإن كانت كذلك، فعلى أي أساس تم تحديد هذه الأرقام، هل تستند إلى بحوث ودراسات معينة في هذا المجال، أم أن العملية افتراضية، فكل ما أعرفه أن خط الفقر في السعودية للأسرة المكونة من خمسة أفراد تم تحديده من خلال دراسة علمية موثقة بـ(8926) ريالا، بينما بقية الطبقات ما زالت مجهولة تماما بالنسبة إلي، ولا أدري على أي أساس يتم تصنيفها، علاوة على أن متوسط رواتب الموظفين في السعودية قبل التخفيض الأخير للرواتب (7200 ريال للقطاع الحكومي، 4800 ريال للقطاع الخاص)، لذا فإني أتوقع أن يقع أغلب السعوديين داخل الشريحة الأولى في البرنامج، وهي الفئة الأكثر دعما من غيرها، والتي لا يتجاوز دخلها الشهري (8699) ريالا، ومع ذلك فإننا لو أضفنا الدعم المقدر لها -مبدئيا- إلى متوسط رواتب الموظفين فلن نستطيع أن نرفعها عن خط الفقر!

يهدف "برنامج حساب المواطن" إلى دعم المواطنين ذوي الدخل المحدود والمتوسط وما فوق المتوسط لمواجهة الآثار الاقتصادية الناجمة عن التعديلات التي سوف تتخذها الدولة برفع أسعار الوقود، والذي سيتم تدريجيا حتى عام 2020، وهذا الهدف نبيل بلا شك لكنه ليس كافيا، ما لم تكن آلية التطبيق مناسبة، ومن وجهة نظري أن البرنامج لن يعالج مشكلة نقص الرواتب وإلغاء البدلات ورفع الدعم ما لم يُعوَض المواطن بمقدار ما فُرِض عليه أو أُخِذ منه، ولعل من أهم عوامل نجاح القرارات وتنفيذ البرامج أن تُبنى على معلومات صحيحة، وأرقام دقيقة، لأن المخرجات تعتمد كليا على المدخلات، ومن المستحيل أن تكون مدخلاتك خاطئة فتحصل على نتيجة صحيحة.

لا ريب أننا نتفهم جميعا حاجة الدولة إلى تحرير الأسعار وضبط الإنفاق، مع عنايتها بالحفاظ على المستوى المعيشي للمواطنين، لذا نبحث دوما عن مشاركتها في اقتراح أفضل السبل وأنجح الحلول لتحقيق هذا الهدف، وأظن أن القائمين على هذا البرنامج بحاجة إلى تغذية راجعة وتقييم خارجي، وذلك بالاستماع إلى آراء مخالفة لرأي المحيطين بهم، خصوصا أن هذا البرنامج جزء من الرؤية، وهي أصلا قائمة على أساس الشفافية والوضوح، وتقبل كل الآراء والاستماع إلى جميع الأفكار، فعندما سألني ذلك الصديق عن هذا البرنامج وعن أفضل وسيلة لتقديم الدعم للمواطنين المتضررين من التعديلات التي سوف تتخذها الدولة برفع أسعار الوقود، قلت: إن هذا البرنامج جميل في فكرته، لكن تطبيقه بهذا الشكل سيقلل من المشكلة ولن يمحو أثرها، لأن الدعم أقل من المأمول، وستتضح عيوب البرنامج مع بداية تطبيقه، بما يجعلنا نتنبأ بتزايد حالات عدم الرضا مع مرور الوقت وزيادة التكاليف، لذا أعتقد أن الحل الأمثل يكمن في منح علاوات اجتماعية بحسب عدد أفراد الأسرة، إضافة إلى إصدار بطاقات تموينية تساعد المواطنين في الحصول على السلع الأساسية بأسعار مخفضة، كما هو معمول به في كثير من الدول، وقد سبق لوزارة التجارة والاستثمار أن قامت بإرسال وفد إلى دولة الكويت الشقيقة للاطلاع على تجربة نظام "البطاقة التموينية" وتجربة "الجمعيات التعاونية"، وكانت هنالك وعود بقرب تطبيق هذا النظام في السعودية، إلا أن الحديث عنه انقطع فجأة إلى أن نُسي تماما مع مغادرة الدكتور توفيق الربيعة كرسي وزارة التجارة، رغم أن هذا النظام سيقضي على جزء كبير من مشكلة رفع أسعار الوقود وغيرها، ولن يجد المواطن معه صعوبة في الحصول على احتياجاته الأساسية.