النسيان نعمة وهبها الله لعباده، فكم من أحداث مأساوية مرت بنا نسيناها! وكم من أعزاء فقدناهم ونسينا حرقة فراقهم رغم ألمها. وكم من أخطاء ارتكبها الآخرون في حقنا نسيناها ونسيناهم. وكم من عاشق طاف به النعاس على جفنينا وارتحلت به الأيام إلى مخادع النسيان.
لكن هل يكون النسيان دائماً نعمة على الإنسان؟ بالطبع هذا غير صحيح، فالنسيان ظاهرة اجتماعية نفسية من نوعين: النوع الإيجابي والذي يكون عادة بنسيان همومنا الخاصة مع الأهل والأصدقاء. أما النوع السلبي من النسيان فيكون عندما ننسى من أجل مصالح شخصية بحتة، خاصة إذا كان ما ننساه قضايا اجتماعية حقوقية عامة مثل نسيان حقوق ضاعت أو ظلم مورس علي مجموعة من الأفراد في المجتمع أو دروس لم نتعلم منها ما يعيننا على مواصلة الحياة بنضج أكثر.
وأنا أتذكر بعض الذكريات المؤلمة التي مرت بها مدينتنا العروس جدة.. لا أستطيع أن أنسى يوم 25 نوفمبر من عام 2009 عندما غرقت جدة وقضى فيها من قضى وشرد من شرد. وقتها تشكلت مجموعة وطنية تحت شعار "لكيلا ننسى" كان الهدف من وراء إنشاء هذه المجموعة ليس مجرد نبش في الذاكرة للتذكير بإخوة لنا قضوا نحبهم، ولا مجرد ذكرى تثير المواجع عن كارثة مأساوية مر بها الوطن، لكن لمتابعة ما تم بشأن الكارثة، خاصة محاسبة المقصرين وكشف أوجه القصور ومعالجتها. وقتها استنفرت المشاعر وجندت الأقلام لتسهب في أسباب الكارثة وتداعياتها وتطالب بمحاسبة المقصرين ومعاقبة المتسببين وكان قرار خادم الحرمين الشريفين بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق بلسماً لكل من اكتوى بنار الكارثة وكل من وقف بضمير حي مطالباً بوضع حد للفساد الذي أيقنا أنه السبب الرئيسي في الكارثة سواء كان فردياً أو مؤسساتياً بطريق مباشر أو غير مباشر.
اليوم، ونحن نستعيد هذه الذكرى المؤلمة لا نملك إلا أن ندعو لكل نفس بريئة لاقت وجه ربها ولكل الضحايا الذين قضوا نحبهم جراء تلك الكارثة.
اليوم، وبحسب ما نُشر في الصحف المحلية فإن هيئة تقصي الحقائق في كارثة جدة، التي أمر بتشكيلها خادم الحرمين الشريفين، قدّمت تقريراً عن كل من حُقّق معهم في تلك الكارثة، بقيادة أمير منطقة مكة المكرمة خالد الفيصل وعضوية بعض مسؤولي الجهات، إلى خادم الحرمين الشريفين في بداية العام الهجري الجاري، وإثر ذلك ما زال أهالي ضحايا تلك الكارثة يترقبون معاقبة المتسببين بعقوبات مغلظة والتشهير بهم في وسائل الإعلام بشكل أو بآخر؛ حتى تُشفى صدورهم من بعض المسؤولين الذين لا يقيمون للمبادئ اعتباراً ولا للبسطاء وزناً.
اليوم، وعلى الرغم من مرور سنة كاملة على تلك الكارثة، ما زال الكثير منا يسأل عن خطط أمانة جدة، وما الذي أعدته الأمانة للحد - على الأقل - من وقوع خسائر أخرى في الأرواح والممتلكات؟ ولسان الحال يقول إن تلك الأحياء ما زالت تترنح من ويلات تلك المأساة، سواء في تآكل البنية التحتية لأحياء بكاملها أو في الغبار والأتربة الناتجة من تلك السيول المنتشرة في تلك الأحياء وغيرها من الأحياء المتضررة. ولعل زيارة سريعة من قِبل مسؤولي أمانة جدة إلى أحياء الحرازات وقويزة تطلعهم على شيء من ذلك وأكثر بعد مرور سنة كاملة على تلك الكارثة.
واليوم، نتذكر هذه الحادثة من أجل الإجابة على الأسئلة العالقة والتي لم تجد جواباً شافياً برغم انتهاء لجنة تقصي الحقائق من عملها، فهل تمت محاسبة كل متسبب في الكارثة خاصة المتنفذين منهم؟ وإن كان ذلك قد تم فلم لم نسمع عنه؟ هل تم تعويض كل متضرر في الكارثة السعوديين منهم وغير السعوديين؟ وما ذا تم بشأن إصلاح البنية التحتية في جدة كي لا تتكرر الحادثة؟
ذكر الأمير خالد الفيصل أن من أسباب الكارثة إنشاء أحياء سكنية على مجرى السيول، فماذا تم بشأن هذه الأحياء؟ هل أزيلت أحياء ومخططات في مجرى السيول مثل مخطط أم الخير والأجواد؟ إن صدى تلك الكارثة ما زال يتردد في قلوب ساكني تلك الأحياء الذين لا خيار لهم إلا العودة مرغمين، بل وما زال الخوف والترقب يغلب على سكان أحياء شرق جدة من تكرار وقوع مثل تلك الكارثة، في ظل أن الأمور على ما هي عليه، ولم يتغير أي شيء في أفق تلك الأحياء.
واليوم، وبعد مرور عام على هذه الحادثة المؤلمة لا بد أن نستعيد الأحداث لا لنعيشها بل لنرى ماذا تم بشأنها. تصفحت نشرة "أخبار جدة" لشهر يناير 2010 والتي تصدر عن أمانة محافظة جدة ، فكانت كفيلة بإعادة تفاصيل المأساة التي وإن كنا قد تجاوزناها ظاهرياً إلا أنها ما زالت جاثمة على قلوب ومشاعر الكثير منا، خاصة ممن تضرروا في هذه الفاجعة.
كانت تلك الكارثة نتيجة مباشرة للفساد المالي والإداري، فماذا تم لاجتثاث الفساد؟ إن أمر خادم الحرمين الشريفين بتعويض شهداء كارثة سيول جدة ومحاسبة المسؤولين عنها، خطوة إيجابية تسهم في كبح الفساد وتمثل إنذارا لكل من تسول نفسه التقصير في المهمات الموكلة إليهم. ولئن واجه خادم الحرمين حفظه الله ما حصل بكل شجاعة وصرامة وشفافية، فهل نحن ماضون بمثل تلك الصرامة والوضوح والمحاسبة القانونية؟