القائد الحقيقي، هو من يتمكن بحنكته الإدارية، من كسب ولاء وإخلاص موظفيه، وتحويلهم إلى فريق منتج، مستثمراً طاقاتهم، وموجها لقدراتهم لإنجاح مشروع، يعملون فيه معاً. وليس ذلك المتخاذل، الذي مازال يعيش معتقداً بأن الرئاسة أن يجلس في مكتبه، يلقي بالأوامر من خلال الهاتف، ويبدي امتعاضه من كل عمل يقدم له. ثم يخرج فيما بعد ليتفقد، أين وصل المشروع، ويحث من كان يقوم به، على إنهائه سريعاً، وحين يفعل، "يلطشه" بكل سهولة، ليقدمه لرؤسائه التنفيذيين أو من أعلى منه. لحصد ترقية أو منصب جديد.
ليس من السهل، أن يصبح كل مسؤول قائدا، عندما يتقلد المنصب بشكل تلقائي. فأحياناً كثيرة، يصعد للمنصب مسؤول، لا يملك اتخاذ أي قرار، أو تقديم أي تطوير جديد، لينفض العثة عن القطاع الذي يرأسه. بل يظل عقودا من الزمن، يدير قطاعا مُمرضا وكئيبا، كان أكبر دور له فيه، إنكار الأخطاء حين تقع. وحين تتعاظم، يتفنن في تقاذف المسؤولية وإلقائها على آخرين.
صناعة القرار والتغيير، لا تحتاج لرئيس "بواسطة"، يعتمد على دهائه في المناورة. بل همة ونزاهة عالية، ودراية تامة بالأعمال التي يتولاها، فمهما كانت براعة الشخص غير المناسب، في تمثيل الدور، سيأتي عليه يوم بمصيبة، تكشف أهليته وقدراته. ولنا في متهمي سيول جدة مثال.
شاهدنا من فترة قريبة، كيف اخترقت سيدتان، الوفد المرافق لوزير الصحة، لتلقنا المسؤولين في مستشفى عسير، درسا من دروس المربيات، في النزاهة والصدق، فحين وقفت المرأة بكل شجاعة، تصف للوزير تفاصيل بعض الغرف، عادت أخرى تطالبه بأن يشاهد الحقيقة بعينه، فالمرأة حين تفقد الثقة في الرجل الذي يعد ولا يفي بوعوده، لا تحترمه فقط، بل ستتعمد إحراجه، بكشف الحقيقة مهما كان الثمن.
فبدلا من أن يذهب الربيعة للجناح الذي جهزه المسؤول، لبى طلبها وذهب ليرى الحقيقة المخفية عن أعين الوزارة، في قسم النساء، والتي عادة لا تصلها خطط التطوير، مستغلين خصوصيتها. وتدليس الحقائق هذا، لا يحدث في الصحة فقط. بل في كل قطاع حكومي، يرتب زيارة تفقدية لأي وزير.
والسؤال الذي كثيرا ما يتردد في ذهني، إن كان أي وزير يريد حقا أن يعرف الحقيقة، وأن من عينهم يقومون بواجباتهم، أو كانوا أكفاء لتلك المناصب، لماذا يصر على إعلان موعد زيارته للقطاعات التي تتبع وزارته، ويصحب معه وفداً. لماذا لا يأتي في أوقات غير معلنة، ليتفقد المشاريع وسير الخدمات التي تقدم. كيف يغفل الوزير عن أن الإعلان عن الزيارة، سيقدم له لوحة جميلة، لا علاقة لها بالخلفية القبيحة وراء الصورة.
والسؤال الأكثر جدلاً، كيف يتوقع أي مدير، بعد زيارة وزير أو تنفيذي، أن ينظر إليه موظفوه باحترام، وهم كانوا شهودا وربما مشاركين، في عملية التدليس والتزوير، التي حدثت أمام الوزير. فحين يغير أي مدير الحقائق، لا يقوم بذلك بنفسه، بل يستخدم آخرين للقيام بذلك، ليحصل على كبش فداء، يلقي عليه الجريمة في حال اتهامه.
وفي مجتمعنا الوظيفي، عمل أغلبنا مع نماذج إدارية، كانت تثبت لنا، في دروس عملية، معنى الشعور بالمسؤولية، مكنتنا من التفرقة، بين القائد المنتج، ونقيضه المدمر. ورأينا كيف أصبح بعض الرؤساء الصغار. بعد أن وصلوا إلى مناصبهم بالواسطة. رؤساء كبار، فقدوا ولاء ومحبة موظفيهم. أثناء عملية وصولهم إلى المنصب، وكيف دمر بعضهم زملاءهم وغدروا بهم من أجل أن يتربعوا على القمة. ليقفوا في النهاية فوق أشلاء كل من وقف معهم أو ساعدهم. وفوق هذا يعيش أغلبهم في خوف شديد من فقدان المنصب غدرا.
وعلى مستوى الوزراء، وبعد المرحوم غازي القصيبي، مازال الوزير توفيق الربيعة الوزير الوحيد الذي كسر من جمود الوزراء، حين غير من الموروث الإداري المترهل السائد في ثقافة العمل في القطاع الحكومي، لأنه أدرك أن الزمن تغير، والعمل بالعقلية القديمة لا يجدي. ويعد الوحيد الذي كسب ولاء وإخلاص موظفيه بالمعاملة الحسنة، فعملوا وأبدعوا لتصبح وزارة التجارة في عهده وزارة جديدة لها ثقلها في إنصافها للمواطن، ودور فاعل في المجتمع، بعد أن كانت مهجورة ومحسوبة على الدولة. ومازال المواطن ينظر إليه بثقة، لأنه كان قادرا على صناعة التغيير.
وهذه الحلقة المفقودة اليوم، بين المسؤول والمواطن "الثقة"، فالمواطن اليوم، لم يعد نفس مواطن زمان، يتقبل تلك التصريحات المبالغ بها، بل يبحث عن تأثير لتلك التصريحات على حياته.
ولكن حين يرى المواطن كيف يضلل المسؤول بمنتهى السهولة مسؤولا أكبر آخر، كيف يتوقع أن يثق فيه المواطن مرة ثانية، حتى لو سجل براءة اختراع، بل ستظل موعظة الراعي والذئب تلاحقه للأبد.