تبرز إشكالية الصدامات الفكرية التي لها جانب في المسألة الدينية ذات العلاقة الاجتماعية في قضايا الخطاب الديني في عمومه، سواء على المستويات البسيطة كقضايا الخلافات الفكرية والاجتماعية الاحتسابية الصغيرة، أو المستويات الأعلى ذات البنى السياسية كعلاقة الدولة مع المجتمع أو علاقات الدولة مع دول العالم أجمع، والتي صارت الحركات الإسلامية في دول العالم الإسلامي تزايد فيها على دولها، وتخرجها من دائرتها الإسلامية.. أقول: تبرز إشكالية الصدامات الدينية من تداخل العلاقة الدينية/ الاجتماعية أو الحياتية بشكل أعم، أي صعودها أحيانا إلى الجانب السياسي في بعض قضاياها، وهو التداخل الإشكالي بين تعالي الديني وقدسيته والتطور الحياتي الواقعي. بصيغة أخرى، إشكالية التداخل بين ما هو ديني بكل قدسيته ومدني بكل تاريخيته مما يفرز نوعاً من التجاذبات الدينية بين أفراد المجتمع الواحد.
هذا التداخل صبغ الفكر العربي بعموميته بصبغة دينية، وجعل كل القضايا التي لها علاقة بتنظيم الحياة سواء قضايا اجتماعية بسيطة أو قضايا سياسية كبيرة، ذات صبغة دينية؛ بل وتحول الصراع السياسي على مسائل السلطة في عموم التاريخ الإسلامي إلى صراعٍ ديني، وتحولت بعض تلك الصراعات إلى مذاهب قائمة بذاتها، لها منظومتها الفكرية الدينية والسياسية، وتحاول من خلال هذه المنظومة أن تسعى إلى بلورة الواقع بذات التوجهات الفكرية أو العقائدية. تشكل في بعض تلك المنظومات منظومات فقهية أصغر تمس الحياة اليومية للناس، تهتم بمسائل بسيطة جداً تعبر عن مدى التوافق الاجتماعي مع المنظومة الأكبر سواء بشكل إلزامي قسري أو بشكل اختياري، حسب مستوى الهيمنة الفكرية على المجتمع.
مع مرور الوقت، ومع بعض التشدد في رؤية المنكر من قبل بعض الناظرين إليه، أو القائمين عليه، يمكن أن يتحول ذلك إلى صراع أيديولوجي يصعد من إنكار قضايا بسيطة إلى صراع أكبر على السلطة الفكرية أو السياسية القائمة على قضايا المجتمع، كما حصل تاريخياً في العصر العباسي حيث تحول إنكار المنكر مع تأسيس حركة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قادها أحمد بن نصر الخزاعي إلى إنكار المنكر باليد، ومع انتشار هذه الحركة واتساع رؤيتها الفكرية حتى وصل إنكار المنكر إلى ذات السلطة في دار الخلافة العباسية نفسها، والتي افتعل المأمون بسببها فتنة "خلق القرآن" المعروفة، وامتحان الناس على ذلك، وقد أدت هذه الفتنة إلى قتل أحمد بن نصر الخزاعي نفسه من قبل الخليفة العباسي الواثق الذي خلف المأمون، وسار على ذات الفتنة لتقويض تلك الحركة حتى إنهاء مشكلة الفتنة نهائياً مع المتوكل لأسباب سياسية أخرى هددت الخلافة من خارج الحدود الإسلامية.
الخوارج مثلاً في بداية الصراع التاريخي الإسلامي على الخلافة صعدوا بمفهوم المنكر لمرتكب الكبيرة إلى الكفر مما يسوغ لديهم الخروج السياسي على الحاكم، ولذلك كان مفهوم المنكر لديهم مفهوماً دينياً له جذوره السياسية يحتم لديهم التغيير الجذري لبنية المجتمع ككل.
وفي العصر الحديث، مع حركات الأسلمة الأيديولوجية، كان مفهوم المنكر سياسياً بحكم أن الدولة المدنية دولة لادينية أو علمانية من وجهة نظرهم السياسية، والتي خلقت بعض الأزمات السياسية داخل المجتمع الإسلامي على اعتبار إقامة دولة الإسلام، وفرضت بعض تلك الأيديولوجيات رؤيتها السياسية في تغيير المنكر حسب وصولها إلى سدة الحكم كما فعلت دولة طالبان. وفي رسائل جهيمان العتيبي كان مفهومه للمنكر ركيزة أساسية من ركائز حركته، حتى وصل به إلى أقصى مداه، وسوغ لنفسه بعد ذلك احتلال الحرم المكي قبل واحد وثلاثين عاماً.
لقد خضع مفهوم المنكر طوال التاريخ الإسلامي، وحتى وقتنا الحاضر إلى إعادة إنتاج متواصلة لا تقف عند حد معين. ويُعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من ركائز الدين الإسلامي، وقد نص عليه القرآن في أكثر من موضع، إلا أن التفسيرات الدينية أو التاريخية لمفهوم المعروف ولمفهوم المنكر كانت خاضعة في أكثر أحايينها إلى مدى هيمنة الخطاب الفكري أو المذهب الإسلامي؛ بل ويصل في بعض المذاهب الإسلامية إلى اعتباره من أصول المذهب كما عند المعتزلة، ونجد في المذاهب الأخرى النصوص الكثيرة في أهمية العمل على المعروف أمراً والمنكر إنكاراً ونهياً، ومع أهمية هذه المسألة لدى كافة الطوائف الإسلامية، والمذاهب الفقهية داخل تلك الطوائف، إلا أن مفهوم المنكر لم يتم تحديده بشكل نهائي، ومازال الخلاف يدور حول تحديد بعض التصرفات، أهي داخلة في المنكر أم أنها أصبحت من قبيل المقبول بها اجتماعياً أو دينياً؟
ومع التحولات العصرية للمجتمعات الإسلامية الحديثة، ومع وجود العديد من المذاهب الإسلامية المختلفة، ومع توسع التفسيرات القديمة والحديثة للنص الديني، ومع اتساع الشريعة الإسلامية مما جعلها تتسق مع اختلافات المجتمعات الإسلامية، وانفتاح هذه المجتمعات على العالم يصبح مفهوم المنكر أكثر إشكالياً، فما كان من قبيل المنكر دينياً واجتماعياً في مكان، قد لا يكون منكراً في مكان آخر، أو في ذات المكان في زمان مختلف، والإشكالية التي تقع دائماً من الصدام الفكري بين طوائف المجتمع، وخاصة من القائمين عليه، أنه لا يوجد تحديد واضح للمنكر إلا في مسائل معروفة، وتتفق عليها كل المجتمعات حتى غير الإسلامية أيضا، كالسرقات والاغتصاب والقتل، والتزوير، وتعاطي المخدرات، أو ترويجها، والجرائم الإنسانية التي خضعت لإدانة دولية كالعمليات الإرهابية مثلاً.
إن الإشكالية التي يقع فيها ممثلو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه لايوجد هناك إطار يحدد المنكر من عدمه داخل المجتمع السعودي فما بالك بغيره، ولذلك دائما ما يخضع تحديد المنكر لرؤية القائم عليه، وليس للمفهوم الإسلامي الواسع الذي قَبِل اختلاف المجتمعات، ولذلك فمن المهم محلياً تحديد مفهوم عام للمنكر خاضع لسعة التشريع الإسلامي، على الأقل في إطار إمكانية الاختلاف المذهبي الفقهي إذا كان من الصعب الإلمام بمفهوم المنكر عند كل الطوائف الأخرى.