النجاح الذي حظيت به احتفالية اللغة العربية التي شهدتها باريس على مدى ثلاثة أيام، استطاع أن يعيد شيئاً من الاعتبار لانتمائنا القومي، نحن العرب المقيمين في باريس والمجروحين بعمق في الانتماء لكل ما يخص قوميتنا ولغتنا، والندوات التي شهدتها هذه الاحتفالية مترافقة مع معرض ناجح بكل المقاييس لجماليات الخط العربي، أقيمت في مقر اليونسكو في باريس بمبادرة من مندوب المملكة لدى اليونسكو زياد الدريس، وهو ضمن احتفال الأمم المتحدة ومنظماتها بيوم اللغة العربية، ولهذا اليوم حكاية بدأت منذ تأسيس الأمم المتحدة، ونجحت على مرحلتين: الأولى في السبعينات، والثانية منذ 4 سنوات فقط. ففي عام 1973 وتحديداً في 18 ديسمبر، أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة اقتراحاً كانت قد تقدمت به المملكة العربية السعودية والمملكة المغربية لاعتماد اللغة العربية لغة رسمية بين لغات العمل المعتمدة في المنظمة الدولية والمنظمات التابعة لها، إلى جانب الإنجليزية والفرنسية والصينية والروسية والإسبانية، ثم وبعد محاولات واقتراحات متعددة، وفي 2012 وبقرار من الدورة العامة لليونسكو، أصبح ذلك التاريخ يوماً عالمياً للاحتفاء باللغة العربية، يجري الاحتفال به سنوياً بطرق مختلفة، وفي عدة دول، وهذا ما حصل هذا العام، وكان تتويجه في مقر اليونسكو في باريس.
اللافت في هذه الاحتفالية هو الحضور الكبير من عرب وفرنسيين، والتفاعل مع المعرض ومع الندوات، والصدى الواسع، وقد كانت هذه الاحتفالية مناسبة ليس فقط للاحتفاء باللغة العربية، بل للتنبيه إلى المخاطر التي تتهددها، وكذلك كانت دعوة للتمسك بها والمحافظة عليها والاعتزاز بها، وقد قال مندوب المملكة في افتتاح الملتقى "المدخل الحقيقي والفعال لرفع مكانة اللغة العربية هو ليس في كثرة مديحها.. بل في كثرة استخدامها، اللغة قد تموت عندما يصيبها الهزال والضعف، إما بسبب عدم تغذيتها، أو بسبب تركها مقعدة وخاملة في مكان مغلق، لا تخرج إلى الهواء الطلق وتخالط الناس وتتفاعل مع جوانب الحياة، فتموت مهملة كما تموت العجائز في دور المسنين".
وهذه العبارة هي جوهر النقاش بخصوص اللغة العربية الذي لا يتوقف، وقد ازداد كثافة مع تركيز وسائل الإعلام على المعضلات التي تواجه اللغة العربية بمناسبة اليوم العالمي لها.
فاللغة كائن حي يتفاعل مع الناس كما يتفاعلون معها، وتغذيهم بقدر ما يغذونها، والمعضلة التي تواجهها اللغة والتي يصل البعض إلى حد تسميتها اندثار اللغة العربية، وقرب انقراضها، ليست معضلة في اللغة بحد ذاتها، بل هي معضلة تخصنا نحن، أي الناطقين بالعربية والمتهربين منها والمترفعين عليها، وتقاعسنا في تغذيتها وتطويرها، وكل الدول العربية اليوم دون استثناء تعلي من شأن اللغات الأجنبية على حساب اللغة الأم، وتفسح المجال أوسع مما يجب للهجات العامية لتحل محل اللغة العربية الفصحى، وقد بتنا نشهد هذا الأمر في وسائل الإعلام لا سيما التلفزيون والإذاعة، والتي تعتبر المصدر الأساسي الذي تستقي منه الأجيال الجديدة مهاراتها اللغوية.
كما بدأت العامية تتسرب إلى الصحافة المكتوبة بتأثير من استخدام العاميات المتنوعة والمختلفة في وسائل التواصل الاجتماعي، والظاهرة الأحدث هي الانتشار الواسع لكتابة اللغة العربية بحروف لاتينية، مع استعارة أرقام لتكون بديلا عن الحروف غير الموجودة في اللفظ اللاتيني.
مندوب المملكة لدى اليونسكو زياد الدريس طرح في كلمته سؤالاً وأجاب عنه "كيف نحفظ لغتنا العربية من التهميش؟ بشيء واحد فقط، أكرره مرة أخرى، هو بكل بساطة أن نتكلمها، ونتباهى بذلك، لا أن نتباهى بالحديث بغيرها".
إذًا أين تقع معضلة اللغة العربية؟ هل هي في انتشار العاميات؟ أم في ضعف شعور الاعتزاز القومي؟ أم في صعوبتها كلغة وعدم قدرتها على مواكبة علوم العصر؟ أم في انتشار اللغات الأجنبية وتفاخر الأجيال الجديدة بإتقانها واستخدامها؟
ربما تكون المعضلة في كل تلك الأسباب مجتمعة، وبالتالي يصعب السؤال التالي: كيف يمكن مجابهتها؟ لا أحد يملك وصفة جاهزة يمكن تطبيقها لإنقاذ اللغة العربية، والنقاش حول هذه الوصفة لم يتوقف منذ أكثر من قرن من الزمان.