من النتائج التي لا يمكن تجاهلها اليوم، أن الدولة والمجتمع السعودي على حد سواء يعانيان من وطأة التطرف المتغلغلة في المجتمع التي أسهمت بإعاقة التنمية البشرية في بلادنا، فعلى الرغم من الخطوات المهمة التي خطوناها خلال العقود الماضية إلا أن قطار التنمية ـ بمفهومها الإنساني ـ ما زال يسير ببطء قياساً بتسارع التطور في العالم من حولنا، فثقافتنا ما تزال واقعة في شرك التطرف الديني الذي يصوَّر على أنه الدين القويم، وهذه إحدى الممارسات (التكتيكية) التي يتبعها الفكر المتطرف ليكرّس وجوده في مفاصل المجتمع؛ ولهذا غالباً ما نجده يكون العائق الأول والأبرز أمام كل خطوة تنموية، فكثيراً ما يعاقب المجتمع ذاته برفض أي فرصة لفتح الآفاق أمامه، بحجة أن الدين يمنع ذلك أو يتنافى معه!
وهذا ما يخلق بالتالي عائقاً خطيراً يهدد وجودنا، اجتماعياً وحضارياً، ويؤثر في علاقاتنا مع العالم الخارجي كدولة ومجتمع، إذ ينظر العالم إلينا بريبة فلا نحقق وجودنا الحقيقي بالشراكة الفعّالة والمؤثرة إيجاباً في الحضارة الإنسانية، ومن ثم الإسهام بتعمير العالم لا تدميره!
وبما أن الإصلاح يبدأ من الداخل كما يقال، فإن العودة للتاريخ أمر مهم ومفيد لاستلهام الدروس من الماضي، كمحاولة تقويم الحاضر وخلق نقطة انطلاق للمستقبل، فتجربة الدولة السعودية مع التطرف ليست بجديدة: إذ حاول المتطرفون سابقاً إعاقة المشروعات التنموية الحضارية منذ التأسيس فحاول "الإخوان" تحقيق طموحات زعمائهم السياسية عن طريق (الدين)، وذلك بتحريم الوسائل التقنيّة في ذلك الوقت، وكانوا قبل ذلك قد هاجموا الدول المجاورة (الكويت والعراق) بدعوى إقامة علم الجهاد، فأثروا سلباً بعلاقة مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها مع الخارج، وقد حاول الملك المؤسس إصلاحهم وإقامة علاقة معهم لكن الأمر تأزم فأسفر عن دحرهم في موقعة السبلة عام 1929.
وبعد ذلك بدأت مشكلة رفض المتشدّدين لتعليم الفتيات السعوديات إلا أن القرار السياسي كان حاسماً في اتخاذ هذه الخطوة، ثم أسهمت الظروف السياسية الخارجية والأحداث الإقليمية والدولية بتقوية شوكة التطرف من خلال بعض (الوافدين) من بقاع العالم العربي والإسلامي، حيث كان خطابهم ممتزجاً داخل الخطاب الديني العام، إلا أنه انكشف بعد مرور سنوات طويلة بعد نقل تجربة "الإخوان المسلمين" بحذافيرها إلى السعودية، ليبدأ التطرف بالتمدد والانتشار من خلال الكتيبات والنشرات بدعوى التحريم والتكفير وعدم تطبيق الدولة للشريعة، وكان كل ذلك خديعة كبرى، حيث قاد المتطرفون أكبر عملية دينية تخريبية حين قام جهيمان ورفاقه باقتحام الحرم المكي واحتلاله بقوة السلاح وسجن المصلين داخل المسجد الحرام بعد إغلاق جميع أبوابه، إلى أن تم دحر وقتل زعماء هذا التمرد في عام 1979.
غير أن حركة جهيمان هذه كانت إيذاناً بتدشين مرحلة أيديولوجية، وهي ما سمي بـ"الصحوة"، حيث انعكس قيامها على تغيير جذري في سلوك المجتمع السعودي، فاتجه إلى رفض ما كان يقبله سابقاً من وسائل الحضارة وفقاً لمبررات دينية، فأعاق ذلك تنمية الإنسان السعودي الذي بات منغلقاً على ذاته وبات خطاب التطرف سائداً ومقبولاً في المجتمع!
وفي مرحلة تالية ظهرت علناً خطورة الفكر الديني من خلال إعلانه المباشر عن وقوفه ضد توجهات الدولة في التنمية عبر محاولة التأثير على القرار السياسي وفق ما عُرف بـ"مذكرة النصيحة" التي قادت زعماء الصحوة إلى الاعتقاد بأنهم قادرون على تغيير أوضاع البلد وفقاً لما يريدون، محاولين الاستفادة من إفرازات حرب الخليج الثانية (تحرير الكويت)، فحاول بعض الزعامات الدينية صناعة رأي عام مضاد وتوجيهه سياسياً نحو ما يريدون، على اعتبار أن مشاريع التنمية في المملكة لا تمثل رؤيتهم الإسلامية!
إن من الجدير بالملاحظة هو أن محاولة إعاقة التنمية لا تفرق بين قرار سياسي وآخر وزاري، فالاعتراض وارد على كلا الأمرين، فقبل سنوات قليلة نتذكر أنّ قرار دمج الرئاسة العامة لتعليم البنات بوزارة التربية والتعليم قد أحدث ضجيجاً واعتراضاً كبيراً رغم كونه صادراً عن مجلس الوزراء، وبالمقابل حدث الضجيج نفسه بعد قرار وزارة العمل (تأنيث) محلات بيع الملابس النسائية، فكان للوزير الراحل د.غازي القصيبي نصيب من الهجوم العنيف على هذا القرار.
ويمكننا هذه الأيام أن نلاحظ الهجمة السخيفة على قرار سمو أمير منطقة مكة المكرمة بسعودة وظائف حلقات حفظ القرآن الكريم.. ولكن على أية حال، تذهب مثل هذه الاعتراضات في كثير من الأحيان أدراج الرياح، بعد أن تتضح حقيقة قرار الدولة في دعم التنمية البشرية، فتصبح مسألة الاعتراض برمتها مجرد فقاعة صابون، غير أن الأخطر في الأمر أن التطرف يعيق التنمية بطريقة بدائية جداً، وهي إعادة إنتاج (العجلة) بتحجيم التنمية بالطريقة ذاتها في كل مرة، ومحاولة الوصول للطموحات الأيديولوجية بالطريقة ذاتها، إلا أن ما يجب التنبه له اليوم هو أن التطرف لم يعد فقط بنية فكرية، لكنه أصبح بنية (مؤسسية) تتكئ بقوة على بساطة المجتمع وتدينه!