الآن جاء الوقت للحديث عن العلاقة الخاصة التي تجمع الذات بالآخر في الضيافة. أطروحة هذا الجزء هي التالي: الضيافة علاقة مع الآخر كآخر، العلاقة احتفاء وحماية لآخرية الآخر، الضيافة تحوّل الذات من طور الوجود للذات Being-for-the-self إلى الوجود من أجل الآخر Being-for-the-other. الضيافة كذلك تحدث أثرا كبيرا في مسؤولية الذات تجاه الآخر فهي تنقل الإنسان من طور المسؤولية تجاه الآخر Responsible to the other إلى طور المسؤولية عن الآخر Responsible for the other.
الآخر في الضيافة يحظى بعلاقة استثنائية: أن يرحب به ويكرم كآخر. الضيافة حساسة جدا ضد أي عملية تحويل ودعوة للضيف ليشبه الذات. تطهرا من ذلك يحرص المضيف على عدم التعرف على ضيفه. من العادات المشهورة عند أهل الضيافة أن لا يسألوه عن اسمه أو مكان إقامته. هذا الاحتياط ضروري للتحرز من أمرين أساسيين: أولا: ربط الضيافة بهوية الضيف، ثانيا: فتح مجال لانتفاع المضيف من الضيافة. لا يتوقف دور المضيف عند استقبال الضيف كآخر، بل عليه دور أساسي في حماية هذه الآخرية. من مهام المضيف منع أي مشاركة من حضور الضيافة يمكن أن تؤدي للانتقاص من أي شيء متعلق بضيفه. أي دعوة للضيف لتغيير حاله والتحول لحال المضيف تعتبر خرقا لأعراف وقيم الضيافة. لذا الضيافة تتعارض إن لم تكن نقيضة للدعوة. هنا نجد أن الضيافة تعمل بالاتجاه المعاكس لأساس العنف كماه يراه ليفيناز وهو "رد الآخر للذات "The reduction of the other to the self.
الضيافة كذلك تحدث تغييرا أخلاقيا في علاقة الذات بالآخر. الضيافة تخرج الذات من علاقة I-It (العلاقة الاستعمالية التي تجمع الذات بالآخر كموضوع لمنافعها وأهدافها كعلاقة البائع بالمشتري)، وتنقلها إلى علاقة I-Thou (علاقة الذات بالآخر خارج حسابات النفع الذاتية: مع الآخر كآخر). لتفسير هذا الانتقال لابد من الحديث عن النقلة الوجودية التي تحدثها الضيافة في علاقة الذات من الآخر. الضيافة تنقل الذات من شكل أولي من الوجود مع الآخرين وهو الوجود من أجل الذات إلى الوجود من أجل الآخر. الوجود مع الآخرين من أجل الذات يتمثل في العلاقات التي تنخرط فيها الذات مع الآخرين لتحقيق أهدافها الذاتية. التعامل مع الآخرين هنا يتحرك في إطار الحصول على الأهداف التي تسعى لها الذات. هذا يتطلب اختزال الآخرين في تعريفات إجرائية تحدد دورهم بدقة في حسابات الذات: هذا الإنسان: متسوق، زبون، مثقف، ذكي، غبي، مفيد، ضار، كاتب، شاعر، فيلسوف، زوجة.. إلخ). العملية هنا هي اختزال الآخرين في أدوار ويتم النظر لهم تحديدا من خلال تلك الأدوار. الآخرون خارج هذه الأدوار لا يحضرون ولا تتم رؤيتهم. بمجرد خروج هؤلاء عن الأدوار المحددة لهم فإنهم يخرجون من فضاء الرؤية والعلاقة إلا إذا تمت إضافتهم في أدوار جديدة. الذي يحدث مع الضيافة أن الذات تنخرط في مستوى وجودي آخر وهو الوجود من أجل الآخر. هذا الوجود أصيل في حياة البشر وهو نابع من كينونتهم الأخلاقية الأولى. المضيف أثناء الضيافة مشغول بغيره، مشغول بضيفه إلى أكبر قدر ممكن. مهمة المضيف هنا شبيهة بمهمة الأم. أن يتأكد أن ضيفه سعيد، أنه مستمتع بوقته، لا يشعر بالجوع، أنه دافئ، وأن مقعده الذي يجلس فيه مريح. المضيف يقوم بدور الترفيه والحماية والرعاية والتغذية في مهمة لا منتهية. المضيف الحقيقي لا يشعر بأنه قد أدى مهمته على أكمل وجه بسبب هذا العمق من الرعاية التي يلزم نفسه بها.
الوجود من أجل الآخر هو مفارقة للحالة الأنانية التي تعتبر قطع للعلاقة الأخلاقية مع الآخر. الوجود من أجل الآخر قائم على مستوى عميق من الشعور بالمسؤولية الأخلاقية. المستوى القانوني من المسؤولية يجعل الإنسان مسؤولا للآخرين عن آثار أفعاله. مثلا القانون يجعل الإنسان مسؤولا عن آثار سرقة محل ثبت أنه قام بها. هو مسؤول عن أفعاله وليس عن أفعال غيره. في المقابل الضيافة تتحرك في مستوى آخر من المسؤولية وهو المسؤولية عن الآخر. أنا مسؤول عن ضيفي حتى وإن كان ما تعرض له ليس بسببي. في البداية يشعر المضيف أنه مسؤول عن افتقار مضيفه للسكن والإقامة. المضيف يعتقد أنه مسؤول عن هذه المشكلة، لذا فإن مهمة استضافة الضيف تدخل ضمن واجباته. هذا المستوى من المسؤولية شبيه بالمسؤولية التي نشعر بها حين نلتقي بالمتسول في الشارع. رغم معرفتنا أننا لسنا مسؤولين بالمعنى القانوني عن حال هذا المتسول إلا أننا نشعر بالخجل والارتباك حين نلتقي معه. نشعر بأننا مسؤولون عن حال هذا المتسول، ولذا فإن مساعدته واجبة علينا. قد لا نساعده ولكننا بالضرورة نبحث عن مبرر لعدم مساعدته شبيه مثلا بقولنا "سيستخدم هذا المال لشراء مخدرات"، المبرر الوحيد لنا أمام مسؤوليتنا هو أن ننطلق من رعاية واهتمام أكبر بالآخر "أنا أرفض إعطاء المتسول مالاً لأنني أخشى عليه من أن يستعمل هذا المال فيما يضره".
الضيافة بهذا المعنى للمسؤولية تدخل في سياق لمعنى الذاتية. الذات هنا تتحقق ذاتيتها واستقلالها الحقيقي من خلال القيام بمسؤولياتها. المنطق هنا كالتالي: "أنا ذات مستقلة لأنني أعلم أن مسؤوليتي لا يمكن أن يقوم بها غيري". هذا المنطق يعيد لنا الربط القديم بين الحرية والمسؤولية، ولكن المسؤولية هنا تأخذ بعدا أعمق بانتقالها للمسؤولية عن الآخر. المسؤولية عن الآخر ليست هنا ممارسة للوصاية على الآخر، بل تعني خدمة الآخر. الضيافة تعطينا معنى مفارقا لهذه الخدمة. خدمة الضيف شرف مهيب للمضيف. لا يشعر بأي إشكالية في التراتبية التي تصنعها الضيافة بينه وبين ضيفه.