"فلنفترض أنك تسير نحو هدف بواسطة اللوحات الإرشادية، حتى توقفت عند مفترق ثنائي الاتجاه، أي أن عليك أن تتجه بشكل حتمي إما إلى اليمين أو اليسار. التقيت شخصين تتطابق هيئتاهما الظاهرية تماماً عند هذا المفترق، كما علمت بشكل ما بأن أحدهما صادق لا يقول إلا صدقا، وأن الآخر كاذب لا يقول إلا كذباً وأن كليهما يعرف حقيقة حال الآخر، إضافة إلى معرفته بالطريق الصحيح نحو وجهتك.

كيف تستطيع أن تحصل على إجابة تيسّر لك الوصول إلى وجهتك بواسطة استعمال سؤال واحد فقط تطرحه على أحدهما دون الآخر؟".

كانت هذه مسألة افتراضية طرحها متخصص في الرياضيات على صديق له محاولاً أن يوظفها لبيان أهمية المعرفة الرياضية ودورها في تسهيل حياة البشر. لأنه استمتع على ما يبدو بالحيرة المرسومة على وجه جليسه، قرر أن يماطل قبل كشفه عن حل المسألة وإخباره بذلك السؤال اليتيم الذي يكفل الوصول إلى الوجهة بمجرد طرحه على أحد التوأمين.

بعد دقائق، كشف الرياضي عن الحل بعد يأس جليسه وكان كالتّالي: "عليك أن تتوجه إلى أحد الرجلين وتسأله بشكل مباشر: إلى أين سيشير صاحبك لو سألته عن الاتجاه الصحيح؟ ثم عليك أن تمضي في الاتجاه المعاكس للجواب الذي سمعته"!

ذلك لأن الرواية الكاذبة للخبر الصادق (كذب) كما أن الرواية الصادقة للخبر الكاذب (كذب) كذلك. هذا ما يجعل الحزم هو مخالفة الاقتراح في كلا الحالتين.

بعد لحظة من الصمت لم يملك الآخر نفسه من الانزعاج، فبادر إلى تسفيه ما سمع (ولعله في ذاك كان متكئاً على حقل تخصصه في علم النفس) إذ قال: "كيف تفيدنا مثل هذه السفسطة في حياتنا اليومية؟ بل كيف من الممكن أن نحاول تعلم العيش من خلال مثال يقول لنا إن هناك صادقاً لا يقول إلا الصدق وآخر كاذباً لا يقول إلا الكذب؟ لا وجود لمثل هذا في الواقع الذي نعيش. بل مثل هذا لا يوجد إلّا في أوهام الناس الذين لا ينفكّون عن الإتيان بالكوارث. فلأن هناك من يعتقد بوجود مرجعية لا تكذب أبداً وخصوم لا يصدقون إطلاقاً ترى من ينكر الفجر الصادق بصفاقة ويبرر الظلم الفاقع ببلادة. أما رأيت كيف خرج علينا من يجعل بشّار بطلاَ قوميّاً وعدوان الروس والفرس على حلب تحريراً عروبياً؟ ما كان لهؤلاء أن يتوهّموا ما توهموه لو لم يكونوا أحد اثنين: إما أنهم ممن ظن أن هناك من لا يقول إلا صدقاً فشُغف باتباعه أو ممن اقتنع بأن هناك من لا يقول إلا كذباً فأولع بمخالفته. هكذا دون اجتهاد أو مقارنة أو ترجيح. ومثل هذا لا يكون لولا تحيز النفس لانفعالاتها الغريزية التي تصور لها يسر محاكمة تعقيدات البشر كما تحاكم الأعداد التخيلية".

بعد لحظة من الهدوء حاول فيها الرياضي استرداد أنفاسه، قال: "لست أفهم ما علاقة ما تتكلم عنه بما أود الإشارة إليه من قيمة للرياضيات وتطبيقاتها في حياتنا، فلو أنك لم تقاطع لعلمت من تمام حديثي أني أود الإشارة إلى تطبيقات هذه القضية في حقول التقنية لا في انفعالات البشر!

على كل حال ما كنت أتكلم عنه متعلق بما نسميه (المنطق البوليني) وهو المنطق المؤسس للأنظمة الرمزية المستعملة في دوائر الحماية الكهربائية ونظم البرمجة الإلكترونية. والفاعل في قدرة الحواسيب على إعطاء القيم ذاتها لو توفرت لها معطيات متطابقة. والمسؤول بالتالي عن تلك الموثوقية التي تحوزها البرامج الإلكترونية لدى من يقرأ مخرجاتها حتى لو كان طياراً في قمرة القيادة أو جرّاحاً في غرفة العمليات.

صحيح أن إسقاط ذلك على عالم التفاعل البشري خطأ فادح، ولكن المؤسف أنه خطأ يكشف عن قصور البشر لا عن انحطاط الآلات فضلاً عن الأعداد.

عالم الرياضيات والأعداد أكثر عوالم المعرفة نقاءً وتجرداً من شوائب المادّة وكذلك من أهواء البشر. لهذا دوره مهم في منح الحوسبة سمة الموثوقية التي عجز البشر عن اكتساب مثلها طيلة تاريخ وجودهم على الأرض.

وهي السمة التي تجعلنا نستطيع التنبؤ بأن اكتساب الآلات للوعي لن يسوقها إلى الصراعات العنيفة كما تصوّر الأمر بعض أفلام الخيال العلمي، فعالم الآلة لا مجال فيه للتشكّك في النوايا ولا مسوّغ فيه لخوض الحروب الوقائية التي يتذرع بها بني البشر عند كل عدوان".

عندئذٍ ردّ محاوره قائلاً: "لقد تجاهلت يا صديقي جانباً في غاية الأهمية، وهو أنّ الموت لا يعني قتل الأحياء بالضرورة بل يكفي لحصوله قتل الحياة فيهم. وما هي الحياة إن لم تكن الإيمان والأمل وتذوق الجمال المباغت دون نبوءة؟ لعل اكتساب الآلات وعياً محوسباً أو حتى اكتساب البشر موثوقية مبرمجة سيؤدّي إلى عالم أكثر مسالمة، ولكن ثق يا صديقي أنّه سيكون عالماً من وداعة المقابر لا سلام الضمائر وهو عالم لا ولن أحبّ العيش فيه".