هناك حالات منشِئة، وهناك حالات كاشفة؛ أما الحالات المنشئة فركام من المؤثرات التراثية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، تعمل عملها في اللاوعي، وتتجذر في أعماق النفوس في الخفاء، وهي مغطاة بأكثر من غطاء، وأغلظ تلك الغطاءات الغطاء السياسي، المزركش بعبارات تفيد بأن "كل شيء تمام"، و"كل شيء بخير"، والمثبت بأيد من حديد، تتحرك بسرعة البرق لضرب كل رأس يحاول الخروج من تحت هذا الغطاء، فتبقى المكنونات مكبوتات في النفوس، تغلي غليان البركان، وتضطرب اضطراب الماء في القدر، منتظرة ارتفاع هذا الغطاء، لتفور فورانا يدمر كل شيء.
في لحظات وجيزة من "الحرية"، أو الشعور بالقدرة على الكلام من دون خوف؛ يطفو ما في القلوب على الألسنة، وتحصل المفاجأة، وتظهر أفكار ما كان أحد يظن أنها موجودة؛ ذاك أن الغطاء يحجب عن الرؤية، فلا تُرى الأشياء على حقيقتها؛ بل هي بين ألا تُرى أصلا أو تُرى، لكن على وجه مضلل معكوس.
من كان يظن أن دولة عاشت في ظلال العلمانية المتطرفة كـ"تونس" سيخرج منها كل هذا العدد من المتطرفين الملتحقين بداعش؟ كيف وقد تربوا في ظلال العلمانية، وتعلموا في مدارسها، وعاشوا في نسقها وأجوائها عبر عقود من "العلمنة" و"التنوير" و"التحديث"؟! من كان يظن أن القبائل في ليبيا ستتحول إلى جيوش تقتتل هذا الاقتتال العنيف؟
وانظر إلى حال إخواننا في اليمن، وما أنت عما يجري في مصر ببعيد. وها هي ذي سورية تعيش حربا أهلية بمعونة ميليشيات من خارجها، والحقد يملأ النفوس، والطائفية تطل برأسها هنا وهناك، متخذة أشكالا عدة، ومظاهر مختلفة، بكل ما تقوم عليه من كراهية وفئوية، وحقد مستكن في الأنفس.
ليست هذه الأمراض الفتاكة جديدة، ولم يخلقها الربيع العربي، ولم يوجدها من العدم، لقد كانت موجودة، ومتجذرة، وعميقة، ولم يفعل الربيع العربي إلا أن كشف عنها الغطاء فقط. وبهذا، كان الربيع العربي هو "الحالة الكاشفة"، أما الحالة المنشئة فتاريخ طويل -كما أسلفت- يستدعي دراسات حقيقية نزيهة، وأبحاثا، وعملا معرفيا هائلا، خارجا عن الحزبيات الثقافية الكاذبة، والانتماءات الأيديولوجية الزائفة التي تسيرها المصالح الضيقة الموقتة، والأهواء والميول العاطفية، وقد كان في الإمكان معالجته من قبل، غير أن هذا لم يحدث، بل اعتمدت سياسية "إطفاء الحراق"، و"إحكام الغطاء".
نعم، لقد كشفنا الربيع العربي على حقيقتنا، وأظهر عوراتنا المخفية، وأبدى مساوئنا المختبئة، وكان هو مرآتنا التي نرى فيها وجوهنا التي كانت ملثمة، أو مزوقة بمساحيق العلمانية والتنوير والتحديث والدولة الوطنية والشعارات الكاذبة الزائفة.
هذا في الدول التي قام فيها ما يسمى الربيع العربي الذي أظهر ما فيها مما يراه كل ذي عينين، ويتألم له كل ذي قلب. وإن الضرر الناتج من كل تلك الأمراض ليس محصورا في مناطقه، بل يتعداها إلى غيرها، وما أحد عن ذلك ببعيد. وليست الدول التي "نجَت" من العاصفة بخاوية من تلك الأمراض "المغطاة"، ويقتضي الحق والواجب والأمانة أن يسارَع إلى فتح العينين عليها، ومعالجتها معالجة جذرية، والقيام بالإصلاح الشامل؛ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، بحزم وقوة وإصرار.
مؤلم جدا ما يجري، لكنه مع إيلامه وضعنا على حقائق كنا نجهلها، أو نتجاهلها. لقد كشف الربيع العربي أن الشعوب العربية ليست على قلب رجل واحد، فسرعان ما سقطت مساحيقنا التي لطول العهد ظنناها ترسم ملامح وجوهنا الحقيقية. سقطت شعارات الوحدة المزعومة، والأخوة الحميمة، وظهر ما في قلوبنا من كراهية وأحقاد، وبدا أن كل فريق يريد التخلص من الآخر، ويروم تصفيته وقتله وإراقة دمه، فإذا نحن أقرب إلى الانتماء إلى طوائفنا الدينية منا إلى الانتماء إلى أوطاننا، وإذا نحن أقرب إلى الانتماء إلى قبائلنا وعشائرنا منا إلى الانتماء إلى بلداننا، وإذا نحن مفتتون متشرذمون، يحسبنا الناظر من بعيد جميعا، لكن قلوبنا وأهواءنا شتى.
كشف الربيع العربي عن أننا نعاني مشكلة في الأخلاق، فإذا بأبشع ما يمكن تخيله من الدجل والكذب والغدر والعنف وتزييف الحقائق وانتهاك الحرمات والسعي للمصالح الشخصية والفئوية، وإذا بأبشع ما يمكن تصوره من الجرائم والوحشية؛ كامنٌ فينا، كالمارد في القمقم، ينتظر ساعة الخروج، ليعربد ما طاب له أن يعربد.
كشف الربيع العربي عن تناقض الكثيرين منا، وعن سطحيتهم، وجهلهم، وكيلهم بمكيالين بقصد أو من دون قصد، لا سيما من يتكلمون في الشأن الديني، ممن كان يقول قبل الربيع قولا، ثم سرعان ما بدله بعده.
وكشف الربيع العربي عن الآخرين ما موقفهم منا، وكيف ينظرون إلينا، وماذا يبتغون منا.
إن كان لهذا الربيع العربي من فائدة -مع كل هذه الآلام التي لا يمر يوم دون أن يقرع مسامعَنا رجعُ صداها، ويؤذي قلوبَنا مرآها- فهي أنه عرفنا بنا، وأبدى حقيقتنا، وأرانا وجوهنا، وكشفنا وعرانا. وبحسبه أنه بصر المشتغلين في السياسة والدين والثقافة والاجتماع مقدار حاجتنا الشديدة إلى الإصلاح السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، لو كانوا مبصرين!