(أنتِ لا تعلمين كم أنت محظوظة) بهذه الكلمات بدأت زميلتي الباكستانية حديثها معي عندما رأتني أكتب نصا باللغة العربية على جهازي المحمول. ابتسمت تلقائيا وذلك لكثرة سماعي لهذا التعليق من المسلمين غير العرب. شجعتها ابتسامتي على الحديث فقالت: أنتم العرب تتحدثون لغة القرآن وتفهمونه بلا عناء وتتواصلون في الدنيا بلسان عربي مبين مثل أهل الجنة، فكأنكم استعجلتم شيئا من نعيمها، هذه نعمة عظيمة لا أدري كيف تشكرون الله عليها. زميلتي الباكستانية تتقن 3 لغات وما زالت تأمل في الانتقال للوطن العربي لتعلم اللغة العربية من أهلها. لم أخبرها بأن بيننا من لا يجد بأسا في إعلان جهل أبنائه للغة العربية، ولا يقوم بأي شيء حيال جهلهم بلغتهم الأم، تلك اللغة التي تناجي بها من تحب وتناغي بها مولودك الجديد وتعدّ بها نقودك وتتكلمها في أحلامك.

يصادف الثامن عشر من ديسمبر احتفاء العالم بيوم اللغة العربية، ويحمل هذا اليوم شعار تعزيز انتشار اللغة العربية. وحقيقة هذا الشعار يجدر به أن يكون رسالتنا الدائمة. فحديثنا عن محبتنا للغة الضاد والتغنّي على أطلال قصيدة حافظ إبراهيم أو البكاء على أمجاد اللغويين القدماء ممن وضعوا النقاط على الحروف أو أسسوا الصرف والنحو أو استخدموا الحركات لن ينهض بمكانة العربية بين اللغات. ما تحتاجه اللغة العربية هو ارتفاع قيمة متحدثيها وأوطانهم واعتزازهم وفخرهم بالانتماء إليها. هذا الاعتزاز يظهر في تفاصيل كثيرة شخصية ومجتمعية لا ننتبه لها، لكنها بالغة الأثر.

من مظاهر الاعتزاز باللغة أن تستقيم بها ألسنتنا في كل وقت، في المنازل مع أبنائنا وفي الشوارع وفي الأماكن العامة ومع العمالة والخدم. لا نطالب باللغة الفصحى، بل اللغة البيضاء التي يفهمها كل من يتحدث العربية. لا تكسر قواعد لغتك عند حديثك مع أجنبي في بلدك، فهذا لا يساعده ويجعلك تبدو بمظهر جاهل لا يليق بك. للأمانة لم يسبق لي أن واجهت إنجليزيا يكسر لغته من أجل أن أفهمه، بل لم يحدث هذا حتى في تواصلهم مع طفلتي التي كانت تبلغ عامها الثاني عندما التحقت بالروضة في دولة أجنبية لأول مرة.

من مظاهر الاهتمام باللغة العربية أيضا المحافظة على مكانتها في نفوس أبنائنا، وذلك بالحديث عن محاسنها أمامهم بدون انتقاص أي لغة أخرى بالتأكيد. وكذلك بتخصيص وقت لتدارسها ومراجعة قواعد النحو والإملاء والخط وقراءة القصص العربية والأشعار اللطيفة إثراء لذائقتهم. هذا لا يحفظ لغتهم العربية فحسب، بل إن تمكنهم اللغوي في اللغة الأم يحسّن قدرتهم على اكتساب اللغة الثانية بحسب الدراسات، فالطفل الضعيف في لغته الأم يواجه صعوبات في اكتساب أي لغة أخرى.

من مظاهر الاهتمام بتعزيز انتشار اللغة العربية كذلك إثراء حركة الترجمة في التخصصات المختلفة، ولو سعى كل مبتعث لترجمة كتاب واحد فقط من تخصصه إلى العربية من اللغة التي أتمّ بها دراسته لامتلأت مكتباتنا بمئات آلاف المصادر العلمية الحديثة. وكم أتمنى أن يتبنى مركز الملك عبدالله للغة العربية هذه المبادرة وينظمها ويشجع المبتعثين عليها.

وبالحديث عن المبتعثين وتعزيز انتشار اللغة العربية، أشير بفخر إلى مبادرة مبتعثينا للاحتفاء باللغة العربية، وجهودهم المنظمة والرائعة للتعريف باللغة العربية في جامعاتهم. فقد أشرقت العربية هذا الأسبوع في عدد من الجامعات البريطانية المتميزة، وتآزرت الجهود الشابة للمبتعثين والمبتعثات السعوديين والخليجين كذلك للتعريف باللغة العربية في مجتمعات جامعاتهم، وذلك برعاية كريمة من مركز الملك عبدالله -يرحمه الله- للغة العربية، وبتشجيع من الملحقية الثقافية في بريطانيا، فشكر الله لهم جميعا ما قدموا وأثابهم عليه.

كذلك لا بد من الإشارة بمزيد من التقدير إلى مبادرة مدير معهد العالم العربي في باريس د. معجب الزهراني للبدء في تعليم اللغة العربية في ضواحي عاصمة النور باريس. وقد أسعد متابعيه كذلك بخبر دعم هذا المشروع من معالي سفير خادم الحرمين الشريفين في فرنسا، د. خالد العنقري، وهذا ليس بمستغرب، فالمشاريع النوعية تستقطب الاهتمام وتستحق التقدير.

إن تعزيز انتشار لغة ما هدف يمكن تحقيقه، فقبل حوالي 400 عام صرّح خريج كامبريدج البروفيسور Richard Mulcaster اللغوي المعروف قائلا (اللغة الإنجليزية لغة محدودة الاستخدام، ويصعب جدا أن تنتشر خارج حدود الجزيرة البريطانية). بعده بقرن تقريبا تنبأ الرئيس الثاني للولايات المتحدة الأميركية John Adams بأن اللغة الإنجليزية ستصبح في المستقبل اللغة الأكثر انتشارا وأهمية في العالم، وسيحرص الجميع على تعلّمها واكتسابها، وهذا بالفعل ما حدث قبل الألفية الجديدة وتحديدا في عام 1998، إذ أصبحت الإنجليزية هي اللغة الأم لحوالي 400 مليون شخص حول العالم، ووصل عدد المقبلين على تعلم اللغة الإنجليزية إلى مليار شخص، نتيجة للحرص على تعليمها في المدارس ولاستخدامها في التعاملات الرسمية لبعض الدول، خصوصا في القطاعات الخاصة. هذا الإقبال على اللغة الإنجليزية لا يرجع لأهميتها الخاصة كلغة، فهي أداة تواصل مثلها مثل كل اللغات، لكن قيمتها الحقيقية تكمن في هيمنة الدول الناطقة بها وسيطرتهم على العلوم والاقتصاد والترفيه. لا أدري كيف كان سيشعرRichard Mulcaster حيال انتشار اللغة الإنجليزية، وحرص الأسر على اكتساب أبنائهم لها بهذا الشكل حاليا. هذا الحراك له بلا شك مبرراته المعرفية والاقتصادية والنفسية والاجتماعية، ومحاولة تغيير هذا الواقع تستدعي العمل الجاد من أهل اللغات الأخرى قبل اندثار لغاتهم وحضاراتهم.