(أيها الإخوة والأخوات إلى متى نبقى أسرى معادلة عقيمة: إما التكفير وإما التغريب.. كفَّر المستشيخون علماءنا، وسفَّه المستغربون خطابنا). وقفت طويلا عند هذه العبارات العميقة، التي قالها الأمير خالد الفيصل، وفقه الله، في مؤتمر الفكر العربي 15 يُنذِر فيها سموه من المعادلة العقيمة، إما التكفير وإما التغريب، إما الغلو وإما الانحلال، وهما أمران أحلاهما مر، ولكل منهما رواد وأتباع ودعاة، وكان ينبغي تركهما جميعا، وسلوك منهج الاعتدال الذي جاءت به الشريعة، ووافق الفطرة، وما كان لأحدٍ أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، لأنه بالاعتدال تكون الحياة الطيبة، والتنمية والأمن والسعادة في الدنيا والآخرة.

لكن أصحاب النظرة السوداوية -مع الأسف- متعطشون للتكفير، وذلك لجهلهم ولكونهم معجبين بأنفسهم، محتقرين لغيرهم، ولهذا كان سلفهم من الخوارج الأولين يرون أنفسهم أعلم من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وأعلم من ترجمان القرآن ابن عباس، رضي الله عنهما، ومن معهما من الصحابة، رضي الله عنهم، فاتهموا أمير المؤمنين بأنه لا يعمل بالقرآن الكريم، لأن الله يقول (إن الحكم إلا لله)، بينما هو -في نظرهم- جعل الحكم للرجال، وقالوا حكَّم الرجال في دين الله، ومع  أن ابن عباس، رضي الله عنه، دحض حجتهم، وأوقفهم على سوء فهمهم، مما جعل بعضهم يرجع إلى الحق، إلا أن الأكثر أُشربوا هواهم، وأعجبوا بأنفسهم، فانعزلوا عن جماعة المسلمين، ووقعوا في التكفير واستباحة دماء المسلمين، فهذا هو شأن الغلاة في كل زمان ومكان، من مدّعي العلم، شخصية مؤذية، تتابعت الشكوى منهم على مدى العصور، ينازعون الأمر أهله، ولا يُحسنون الظن بأي قرار أو إجراءٍ يصدر، كأنهم هم أهل الغيرة والدين، ومن عداهم ليس كذلك، ولهذا يُكثرون الجَلَبَة والتجمعات والاعتراضات والتهييج وإيغار صدور العامة، هذا الصنف من الناس مع جنايتهم على الشريعة، هم حجر عثرة، وقطاع طريق أمام التقدم والتنمية.

وهكذا فالطرف الآخر (أهل التغريب)، المنبهرون بالغرب، يسفهون خطاب الشريعة، إذا تعارض مع عقولهم المتناقضة فيؤولونه أو يفوضونه، وكأن عقولهم هي الأصل، ولا أدري بعقل مَنْ يُوزَن كلام الله ورسوله؟ وهم أيضا لا يرون لمجتمعهم أي خصوصية ومكانة، رغم أن مجتمعنا يضم الحرمين وهي خصيصة ليست لغير مجتمعنا السعودي، والكتاب والسنة هما الحاكمان على جميع أنظمة دولتنا السعودية، وهي خصيصة لبلادنا، لكن القوم منهزمون نفسيا يحتقرون مجتمعهم وما منَّ الله على بلادهم من خصائص، ويرتمون في أحضان الغرب، فكل شيء عند الغرب في نظرهم حسن، وكل شيء في مجتمعهم سيئ، وكأنهم يرون أن الغرب لا يصح مدحه إلا بالقدح في مجتمعنا وثقافتنا ومناهجنا وخطابنا، فلو عثرت بغلة في العراق لقالوا ذلك بسبب مناهجنا وخطابنا، ولهذا رأينا مع الأسف من يتهم مناهجنا بالغلو والعنف والإرهاب والكراهية، وبعضهم كتب ذلك في مُذكرة خاطئةٍ  ظالمة وسلمها لمنظمة راند الأميركية، ولم يُسلمها لوزارة التعليم، وهي تُهم لا دليل عليها، واجتزاءات قُطعت عن سياقها، ولو قال قائل إن القرآن يدعو للعنف والاعتداء واحتج بقوله تعالى (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) وقوله (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) لكان ظالما خاطئا جاهلا، لأنه يتبع المنهج الانتقائي للنصوص، ويعرض عن النصوص الأخرى التي تُوضح المراد، وتجتث شبهته، وهذا تماما ما يفعله من ينتقد مناهجنا الشرعية، ونحن نقول: لا مانع من الاستفادة من الغرب فيما برزوا به، من علوم وتقنيات وتطور يحتاجه الناس في حياتهم، بل ذلك مطلوب، فالحكمة ضالة المؤمن في أي مكان، لكن هذا لا يعني اتهام بلادنا ومناهجنا وخطابنا، ليرضى الغرب، فهم لن يرضوا إلا باتباع دينهم، كما قال أصدق القائلين: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم).

وأصحاب هذه المعادلة العقيمة: التكفير أو التغريب، والغلو أو الانحلال، وجهان لعملة واحدة، وأحدهما نتيجة للأخرى، وهم يسيئون للبلاد والعباد، لأنهم يغمضون أعينهم عن منهج الاعتدال السعودي المبني على الكتاب والسنة، ويقعون في الإفراط أو التفريط، وردود الأفعال الغاضبة، وهكذا كل متطرف إلى (التكفير والغلو) أو إلى (التغريب والانحلال) في أي مجتمع مسلم في الأرض، فإنه يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويُسلِط الأعداء على بلده ومجتمعه، فيكون مُحتَقَرا حتى عند الأعداء، وما علم هؤلاء المتطرفون من أهل التكفير والتغريب أنه مُتبرٌ ما هم فيه وباطلٌ ما كانوا يعلمون، هداهم الله إلى الحق وإلى طريقٍ مستقيم، وجزى الله الأمير الموفق خالد الفيصل، خيرا على كلماته النيرة، التي كثر معناها، وقلَّ لفظها، ولا غرو في ذلك، فمن شابه أباه فما ظلم، ولله الأمر من قبل ومن بعد.