إن الأفكار الناضجة، والعلوم والمعارف والمُكتشفات، التي رفعت شأن المدنية الحديثة إلى مستواها الحاضر، هي حسنة من حسنات الفقر والحاجة، والهموم والأحزان، وثمرة من ثمارهما.
وشموس الذكاء والعقل في مشارق الأرض ومغاربها، لم تشرق إلاّ من ظُلمات الفقر وجحور الإملاق.
وبهذا كان النجاح والتفوق صناعة إنسان حرقته الحاجة، ذاق مرارة العيش، شاهد بؤس البؤساء، سمع أنين الفقراء، فقرر أن يغير من حياته، فصارع العيش وغالبه، زاحم العاملين بمنكبيه، جرب واختبر، عثر مرة، ونهض أخرى، أخطأ حينا وأصاب أخرى، وتجرع معاني الصبر والثبات والإرادة، حتى استقامت لهُ شؤون حياته، بينما أفنى الفاشلون أعمارهم في التفاخر والتباهي الكاذب أمام الآخرين.
لذا علينا النظر لأنفسنا قليلا، ونعترف بأن أغلب مشاكلنا المادية ليست نتيجة عوزنا وحاجتنا، بل نتيجة لبعض أفكارنا الخاطئة، التي حملنا في سبيل تحقيقها من شقاء العيش وبلائه، وأثقال الحياة ومؤنها ما نَغَّص علينا عيشنا، وأفسد علينا حياتنا، فإنك لترى الرجل العاقل منا، الذي يعرف ما يجب ويعلم ما يأخذ وما يدع، يقترض من البنوك مبالغ مالية ليست من أجل تعليم الأولاد، أو بناء منزل، أو حاجة ضرورية طارئة.. بل من أجل تمضية عطلة الصيف، في لندن، أو باريس، أو إسطنبول..! فلا تجد لفعله هذا تأويلا إلا التفاخر والتباهي أمام الآخرين.
وهذا السلوك اللاعقلاني يقبل عليه حتى الذين لا يجدون راحة في الخارج، ولا تحقق لهم الحياة الغربية والسياحة العصرية، والمراكز الترفيهية السعادة والطمأنينة، لكنهم مضطرون للسفر، وملزمون بتلبية رغبة المجتمع، وعند العودة من السفر، يتحول القرض إلى أزمة مالية، والتزام مُضاعف وهمّ يطال تفكير رب الأسرة، الذي يسعى بدوره إلى الهروب من إلقاء اللوم على نفسه، والبحث عن شماعة يعلق عليها أخطاء تصرفاته، فتارة يشتم الفقر، وأخرى يلعن الحاجة..!. ليس الفقر عيبا، بل هو قوة دافعة تجعل الإنسان العاقل يفعل المستحيل من أجل الوصول إلى أهدافه وتحقيق مآربه، فالكوري الجنوبي كان يبيع شعر زوجته ليطعم أطفاله، في عشرينات القرن الماضي.
دعونا نتقدم خطوة نحو التخطيط للمستقبل، بوضع الأهداف الواضحة والمحددة، التي تشجعنا على وضع ميزانية لـلأسرة، نوضح فيها كل أبواب الدخل والإنفاق، ممــا يساعـدنا على تنظيم حياتنا، بعيدا عن التـباهي والتفاخر الكاذب.