حين نشر الأميركي نيل بوستمان كتابه "نمتّع أنفسنا حتى الموت" في الثمانينات، كان ينتقد وبشدة الاستهلاك المفرط للإعلام التقليدي، تحديدا التلفاز، بسبب تبديله المضمون الفكري والمعرفي المتداول بين الناس لما هو مضحك وترفيهي. إضافة إلى أن المحتوى التلفزيوني تقوده الإعلانات وأصحاب المال أكثر من أن يقوده النقد والمنطق، والحال أن وضعنا اليوم مع مواقع التواصل الاجتماعي أسوأ من ذلك بكثير، ليس فقط لأن المعلنين يؤثرون بشكل كبير في الحسابات المشهورة، أو لأن المحتوى في معظمه سطحي غير مثرٍ، ولكن بسبب تجدده غير المنتهي.

المغردون والناشرون في تويتر وإنستجرام وسناب شات لا يحتاجون إلى تحرير وصياغة وإعدادات كاميرا كما يحتاجها الإعلام التقليدي، وبالتالي فإن ذلك يجعل من تأثيرهم أكثر ديمومة وعمقا وخطرا على الناس.

لعل السخرية الشعبية المفرطة مؤخرا على شاعر متمكن بسبب إلقائه قصيدة، أو السخرية على ممثل بسبب موقف محرج تعرض له في محفل رسمي، تبدو أمثلة واضحة على أن الناس يشغلون أنفسهم بمواضيع ليس لها أي مردود عليهم، والأدهى من ذلك أن هذه المواضيع لا تنتهي، تذهب قضية وتأتي الأخرى دونما أي توقف، لا من الجماهير الفاتحة أفواهها وآذانها تعطشا لأي نكتة جديدة، ولا حتى من الناشرين الفاتحين جيوبهم لمزيد من المعلنين والمشتركين/ المتابعين.

وفي ظل هذه الدورة غير المنتهية من صناعة النكتة في مواقع التواصل الاجتماعي، نجد أننا في حاجة شديدة إلى إعلام واقعي، ينظر إلى مجتمعنا والمخاطر المحيطة به كالإرهاب مثلا، إلا أن مبادراتنا التي تهتم بذلك معدودة ومحدودة جدا.

جامعة الملك خالد كانت من الجهات القليلة التي ترعى إعلاما تثقيفيا صارما، يُعنى بترسيخ الهوية الوطنية وبتسوية استفهامات الشباب والشابات حول قضايا فكرية وجدلية مهمة، ولعل أحدث مبادرات الجامعة كان المؤتمر الدولي الثاني للإعلام والإرهاب المقام في أبها مطلع ديسمبر الجاري.

يذكر أن المؤتمر لقي اهتماما واسعا في مواقع التواصل الاجتماعي، وكان من بين المغردين عنه قامات دينية وثقافية بقواعد جماهيرية مليونية، إضافة إلى التنوع الثقافي والمعرفي للمئة شخص المشاركين فيه، وناقش أكثر القضايا حساسية، المتعلقة بالتطرف الديني والإرهاب من نواح إعلامية وسيكولوجية، وبسقف مرتفع وإمكانات ممتازة، ذلك أن هزيمة الإرهاب الإعلامية لا تقل أهمية عن هزيمته اللوجستية.

هذه المبادرة جيدة، وتوجه الجماهير إلى التفاعل مع قضية حاسمة، والتوقف قليلا عن صناعة وإعادة نشر المحتويات الساخرة والخالية من أي قيمة تعليمية.