المحور الثاني في عنوان المحاضرة هو الضيافة. بعد تلك الإشارات للآخر، لا بد هنا من الإشارة للضيافة على أمل أن نختم بالحديث عن الآخر في الضيافة. الضيافة جزء أصيل من العادات الاجتماعية في كل الثقافات البشرية. يقول ديريدا "لن أقول فقط إنه توجد ثقافة للضيافة، بل سأقول إنه لا توجد ثقافة بدون أن تكون ثقافة ضيافة". جون ديوي يصف الضيافة بأنها السلوك البشري المضاد للانتقام. في البداية يمكننا القول إن الضيافة هي "علاقة بين شخص ساكن وشخص بلا سكن". الضيافة بهذا المعنى وفي شكلها الكلاسيكي موجهة للغريب والأجنبي وعابر السبيل. في المجتمعات التقليدية كان تواجد الغريب في المجتمع حدثا لا يمكن تجاهله. هذا الغريب يجب أن يمنح حالة تجعل تواجده في المجتمع مفهوما وغير مقلق، أو يتم استبعاده من المكان. الضيافة هي الحالة المثلى التي يتحصل عليها القادم الغريب. الضيافة هنا تعني حصوله على كمٍّ هائل من الحقوق وعلى مكانة اجتماعية مذهلة. الضيافة تنقل الغريب ليس فقط إلى حالة المحمي الحاصل على السكن والطعام، بل إلى حالة الحدث المبهج المحتفى به.

على المستوى الفلسفي تم التفكير في الضيافة من عدة جهات. إيمانويل كانت جعل الضيافة الكونية حقا أساسيا من حقوق الإنسان في كل مكان في تصوره لكيفية صياغة نظام عالمي سلمي. بعد أن أسس لضرورة الدساتير الجمهورية في الدول، حيث يقرر المواطنون صياغة خياراتهم ديمقراطيا بدون حرب، وبعد أن أسس لضرورة اتفاق الدول على الاتحاد في تنظيم يتعاهدون فيه على عدم شن الحروب فيما بينهم، تأتي ضرورة الضيافة كشرط لسلم العالم. في تنظيره للضيافة يؤكد كانت أنه معني بالضيافة كحق وليس كعمل خيري. الحق هنا يفهم بالمعنى القانوني بالكلمة بحيث يعني أن تتحول الضيافة بالمعنى الذي يرمي إليه كانت إلى قانون عالمي. يعرّف كانت الضيافة سلبا كالتالي: "الضيافة هي حق الغريب بألا يُعامل بعدوانية حين يصل إلى أرض غيره". (1971: 105). الحق هنا لا يعني إلزام الآخرين باستضافة الغريب، ولكن يعني ألا يتم رده من الدخول إلى الدولة/ المدينة/ القرية. الحالة الوحيدة التي تصبح الضيافة بمعنى استقبال الغريب واجبة، هي حين يتسبب رده في إيذائه بشكل كبير. ما يبحث عنه كانت هنا ليس إلا أن تفتح الأبواب لإمكانية الضيافة. كان يخشى أن تحول الحدود السياسية بين حركة الناس والحركة الحرة على وجه الأرض. عند كانت الغريب له "الحق في الحركة على سطح الأرض، الكوكب الذي يشترك كل البشر فيه". إمكانية الضيافة هي هدف أطروحة كانت وكأن لديه الثقة في عمق الحس الأخلاقي البشري الذي سيتولى الضيافة بمجرد أن تتحقق إمكانيتها. كانت كان يعلم أن العالم في طريقه إلى ضبط الحدود بين الدول بشكل لم يسبق له مثيل، لذا جعل الحركة على وجه الأرض حقا إنسانيا يضمن عدم انغلاق الجماعات البشرية على نفسها.

الحديث عن الضيافة بالمعنى القانوني يثير إشكالا حقيقيا، وهو إشكال الضيافة المشروطة والضيافة غير المشروطة. الضيافة بمعناها اللامشروط تعني تخلي المضيف عن حق التحكم في دخول الضيوف. الباب المفتوح إعلان عن تسليم هذه الإدارة. المضيف الذي يترك بابه مفتوحا يقول: لم يعد لي الحق في منع أي أحد. لكن تحويل الضيافة إلى حق قانوني يثير القلق من قيام الناس بها باعتبارها فرضا قانونيا. أي تحولها إلى مهمة تنفيذية يهدد بعدها الأخلاقي الجوهري. التجربة المباشرة مع الضيافة كحدث يومي تفيدنا بالتالي: المضيف لا يشعر بأن الضيافة واجب مفروض عليه، لكنه في الوقت ذاته لا يعتقد أنه حر في أن يكون مضيافا. المضيف لا يعتقد أن الضيافة خيار شخصي بالنسبة له. بمعنى أنه حقيقة لا يقوم بالتالي حين يقبل عليه الضيف: هل أقوم باستضافته أم لا؟ هذه الحسبة لا تبدو متاحة للمضيف، وكأن قدوم الضيف يحمل معه ضرورة استقباله. هذه الضرورة لا تبدو فرضا ولا قانونا، لكنها كما يرى ليفيناز استجابة للحس الأخلاقي الأولي عند الإنسان: مسؤوليته تجاه الآخر، وأنه ببساطة لا يستطيع تجاهل احتياجه.

بهذا المعنى نفهم كيف تكون الضيافة "مغامرة" باعتبارها انفتاحا على كل الاحتمالات. القادم الغريب قد يأتي بنوايا سيئة. هذا الاحتمال لا يمكن القضاء عليه إلا بنقض مبدأ الضيافة الأول، وهو الانفتاح على الآخر بدون أن نحدد مواصفات هذا الآخر. كل ما يملك المضيف هو الأمل في خيرية الضيف، وأن يكون مشهد الضيافة جليلا بحيث يقضي على النوايا السيئة لو وجدت. الأمل في الضيافة هو أن تلد معها صداقة وضيافة أخرى. ليس من تقاليد الضيافة أن يطالب المضيف برد جميله، لكنه سيتوقع جدا رد هذا الجميل، وسيتفاجأ بمرارة لو لم يحدث ذلك. لا شيء يوازي إحباط المضيف كتلاشي الضيافة أو فشل إنسان ما في أن يكون مضيافا.

لا يمكن الحديث عن مشهد الضيافة بدون المرور على أهداف وغايات ونوايا المضيف. هل الضيافة دائما من زجل الآخر أم أنها يمكن أن تتحرك في أفق ذاتي وربما أناني. إليزبث تيلفر قدمت قائمة بالنوايا المحتملة خلف الضيافة. النوع الأول هو مجموعة الدوافع الغيرية التي تسعى لخدمة الآخر كإطعامه وإيوائه. النوع الثاني دافع متبادل بين الذات والآخر كالحصول على رفيق وجليس وأنيس. النوع الثالث هو الدوافع الذاتية كالحرص على استعراض قدرات الفرد المالية أو جمال منزله... إلخ. عادة ما يعتبر النوع الأول هو الدافع الحقيقي أو المثالي للضيافة. بمجرد أن يشعر الناس بأن أهداف الضيف تتجاوز رعاية ضيفه فإن تقييمهم لضيافته ينخفض. لذا فالمضيف الحقيقي هو الفقير، والضيف الحقيقي هو الغريب والأجنبي.